نشر بتاريخ: 2025/06/24 ( آخر تحديث: 2025/06/24 الساعة: 17:19 )
نبهان خريشة

تحت ستارِ دخان الحرب.. إسرائيل تصعد قمعها في الضفة

نشر بتاريخ: 2025/06/24 (آخر تحديث: 2025/06/24 الساعة: 17:19)

الكوفية بينما تتجه أنظار العالم إلى التصعيد الكبير بين إسرائيل وإيران، بما يحمله من تهديداتٍ إقليمية، تتخذ إسرائيل من هذا الصراع غطاءً لتعميق سياساتها القمعية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، مستغلةً انشغال وسائل الإعلام الدولية والعربية بمجريات الحرب، لتنفيذ حملةٍ ممنهجة من العقوبات الجماعية، والإجراءات التعسفية، والتطهير. فمنذ الأيام الأولى للهجوم على إيران، صعّدت سلطات الاحتلال من إجراءاتها على الأرض في الضفة الغربية، بنشرها الحواجز العسكرية بشكل كثيف، وتم قطع الطرق الرئيسية والفرعية التي تربط بين المدن والقرى، بحيث أصبح التنقل بين منطقة وأخرى شبه مستحيل.

لقد تحوّلت الضفة إلى جزرٍ منعزلة، تعيش كل مدينة أو قرية تحت الحصار، الأمر الذي أدى إلى تعطيل حركة التجارة، ومنع وصول المواد الأساسية، وشلّ الخدمات الطبية والتعليمية، في مشهدٍ متكرّر للإغلاقات الكثيرة التي استخدمتها إسرائيل مراراً خلال احتلالها للأراضي الفلسطينية. ومثلا، فإن قطاع الزراعة في الضفة الغربية يتعرض لأزمة خانقة، حيث يصعب على المزارعين تسويق محاصيلهم، بسبب الحصار الذي تفرضه قوات الاحتلال على القرى والبلدات، وتحويلها الطرق الزراعية إلى مصائد. وجاء في تقرير صدر عن مركز "بتسيلم" الإسرائيلي لحقوق الإنسان أن شاحناتٍ تحمل محاصيل زراعية فسدت بسبب عدم السماح لها بالمرور، مما كبّد المزارعين خسائر فادحة، خصوصاً في موسم الخضروات الصيفية، الذي يُعدّ الأهم في العام.

ويواجه التجار الفلسطينيون هم أيضاً أزمة موازية، فالإغلاق الإسرائيلي المفروض منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية – الإيرانية يحول دون وصول البضائع المستوردة من الخارج، سواء عبر الموانئ الإسرائيلية أو من الأردن مروراً بجسر الكرامة، بسبب الإجراءات الأمنية المعقدة. وقد أعلنت غرفة تجارة رام الله في بيان أن أكثر من 60% من التجار لم يتمكنوا من إدخال بضائعهم إلى الأسواق في الوقت المحدد، ما أدى إلى نقصٍ حادٍ في السلع الأساسية، ومما أدى أيضا إلى ارتفاع الأسعار.

وفي سياق سياسات العقاب الجماعي، أوقفت إسرائيل تزويد الفلسطينيين بالمحروقات بحجة تعرض مصفاة النفط في حيفا للقصف الإيراني، وهو ما أدى إلى شللٍ جزئي في حركة السيارات، وتعطّل خطوط النقل العام، وتوقّف كثير من العمال عن الوصول إلى أماكن عملهم، مما يهدد بانهيار خدمات أساسية تعتمد على الوقود كالمستشفيات ومولدات الكهرباء في الضفة. والهدف من هذا استخدام الوقود كسلاحٍ لكسرإرادة الناس.

إن الأزمة الاقتصادية التي تعصف حالياً بالأراضي الفلسطينية ليست نتيجة الحرب بين تل أبيب وطهران فقط، بل تمثل تتويجاً لتراكماتٍ من السياسات الإسرائيلية التي تسعى لتقويض البنية الاقتصادية الفلسطينية عبر التحكم بكل مفصلٍ من مفاصلها. فالاقتصاد الفلسطيني، بحسب تقرير الأونكتاد، هو من أكثر اقتصادات العالم هشاشةً لاعتماده شبه الكامل على الاقتصاد الإسرائيلي في التوريد والتصدير وتحويل الأموال. وبهذا، فإن أي خلل بسيط في هذه المنظومة، كالحاصل حالياً، يؤدي إلى شللٍ شبه تام في الحياة الاقتصادية.

وما يفاقم الأزمة الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية إيقافُ إسرائيل تحويلَ أموال المقاصة إلى الحكومة الفلسطينية بشكلٍ يكاد يكون كاملاً. وقبل أيامٍ على حرب القصف المتبادل بين إسرائيل وإيران، اقتطع وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش نسباً ضخمة من عوائد الضرائب الفلسطينية، بذريعة تعويض ما تسميه حكومته بـ "ضحايا الإرهاب". ووفقاً لبيان وزارة المالية الفلسطينية في يونيو 2025، تم اقتطاع ما يزيد عن 400 مليون شيكل من أموال المقاصة خلال ثلاثة أشهر فقط، ما دفع السلطة إلى دفع 60% فقط من رواتب موظفيها، مما فاقم من تدهور القدرة الشرائية في الأسواق.

وللممارسات القمعية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين تحت ستار دخان الحرب مع إيران أشكالٌ أخرى، فمع انشغال وسائل الإعلام العالمية بمجريات القصف المتبادل بين طهران وتل أبيب، يواصل جيش الاحتلال حملته ضد المخيمات في شمال الضفة الغربية، لا سيما في طولكرم، بحجة القضاء على المقاومة فيها، بالرغم من عدم وجود مقاومة أو مقاومين. وفي سعيها لإعادة هندسة المخيمات جغرافياً وسكانياً، يتم طرد ما تبقّى من سكانها، وهدم المزيد من البيوت، وتخريب ما تبقّى من البنية التحتية، ودفع المزيد من الوحدات العسكرية والآليات والجرافات إلى مناطق مختلفة في شمال الضفة الغربية، في مشهدٍ يبدو وكأنها مناطق حرب.

ولا يتوقف الأمر على قمع قوات الاحتلال الإسرائيلية فقط، بل أطلقت تلك القوات العنان لميليشيات المستوطنين في الضفة، لتقوم ببعض المهمات بالنيابة عنها. فهؤلاء يهاجمون القرى، يحرقون السيارات، يقتلعون الأشجار، ويعتدون على الأهالي، تحت حمايةٍ كاملة من جنود الاحتلال. واللافت أن هذه الاعتداءات لا يتم توصيفها في الإعلام الإسرائيلي أو الغربي بأنها "إرهاب"، بل تُبرَّر بذريعة "الرد على التحريض الفلسطيني"، أو القضاء على "الإرهاب الفلسطيني" . إن تصعيد عربدة المستوطنين ليس عشوائياً، بل يأتي في إطار سياسة واضحة لخلق رعبٍ دائمٍ في أوساط الفلسطينيين، وإجبارهم على الهجرة الطوعية من أراضيهم، وخاصةً في المناطق المستهدفة بالضم، مثل الأغوار.

إن الحرب مع إيران، بما تحمله من عناوين درامية واهتمامٍ استراتيجي، منحت إسرائيل غطاءً لصرف الأنظار عن جرائمها اليومية في فلسطين. فبينما تغص الشاشات بصور الصواريخ الباليستية والدفاعات الجوية، لا أحد يتحدث عن جثمان الشاب الفلسطيني الذي ظلّ ينزف لساعاتٍ في شارع بطولكرم، أو عن الحاجز الذي فُتح بعد خمس ساعات أمام سيارة إسعاف تنقل امرأة على وشك الولادة. وبهذا، فإن الإعلام الدولي، بتركيزه شبه الحصري على إيران، بات شريكاً ضمنياً في عملية الإخفاء المنظَّم للقمع الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.

قد تنتهي جولة الحرب بين إسرائيل وإيران، وقد يُعلَن وقف إطلاق النار، أو تُعقَد صفقاتٌ سياسية جديدة. لكن القمع في الضفة لا ينتظر الحرب ولا يرتبط بها، بل يجد فيها ظرفاً مثالياً للتمدد. وإن ما يجري اليوم في الضفة الغربية ليس مجرد "تشديد أمني مؤقت"، بل هو فصلٌ آخر من مشروع طويل لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين، وتكريس نظام أبارتهايد ، تحت سُحب الصواريخ وما تسببه من دمار. إن فلسطين، كما كانت دوماً، تظل الضحية الصامتة لكل الحروب الصاخبة، وما لم تُسلَّط الأضواء على ما يحدث في الظل، سيستمر الاحتلال في استخدام ضجيج الحروب كستارٍ دائم للجريمة.