قراءة في تقرير البنك الدولي : الانهيار المالي الفلسطيني أزمة ديون تُهدّد السلطة من الداخل

قراءة في تقرير البنك الدولي : الانهيار المالي الفلسطيني أزمة ديون تُهدّد السلطة من الداخل
الكوفية في مشهد يزداد قتامة يومًا بعد يوم، تقف السلطة الفلسطينية على حافة انهيار مالي عميق، لم يعد بالإمكان تجميله أو ترحيله، فالأرقام التي كشفها البنك الدولي في تقريره الصادر في يونيو 2025 لا تترك مجالًا للشك: نحن أمام أزمة مركبة، تتجاوز الحرب الأخيرة، وتغوص في أعماق تدهور بنيوي مالي وإداري متراكم منذ سنوات، انفجر الآن بكل تجلياته في ظل تراجع المساعدات وتفاقم الالتزامات.الدين العام الفلسطيني بلغ 86.3% من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 94.6% خلال العام الجاري، ثم يلامس عتبة 96.1% في 2026، هذا التراكم لا يعني فقط عجزًا في الوفاء بالالتزامات، بل يؤشر إلى خطر فقدان السيطرة على الدين نفسه، لا سيما أن ما نسبته 55% من هذا الدين عبارة عن متأخرات غير مدفوعة بلغت قيمتها نحو 6.4 مليار دولار؛ ويتوزع هذا الرقم بين ثلاثة مليارات دولار مستحقة لصندوق التقاعد المدني، نتيجة توقف وزارة المالية عن تحويل المساهمات الشهرية؛ ومليار ونصف للقطاع الخاص تشمل مستشفيات وشركات أدوية ومقاولين، ومليار و470 مليونًا متأخرات رواتب لموظفي القطاع العام، الذين يتقاضون منذ أكتوبر 2023 بين 50 إلى 70% فقط من رواتبهم الشهرية.هذه الأرقام لا تعبّر عن أزمة سيولة عابرة، بل عن غياب توازن مالي بات يهدد ركائز الاقتصاد الفلسطيني، ويضع صندوق التقاعد على شفا الإفلاس؛ فالمعاشات تُصرف من أموال لم تُضَخ فعليًا، ما يجعل استمرار هذا الوضع أشبه بسحب من رصيد غير موجود، في عملية نزف بطيئة لا تنتهي إلا بالانهيار التام.أما الناتج المحلي الإجمالي، فقد سجل انكماشًا غير مسبوق بلغ 27% خلال عام 2024؛ غزة وحدها شهدت انكماشًا هائلًا وصل إلى 83% بسبب الحرب، فيما انكمش اقتصاد الضفة بنسبة 17% نتيجة القيود الإسرائيلية، وتوقف مشاريع، وشلل قطاع الأعمال. وقدّرت الجهات الدولية الشريكة مع البنك الدولي – كالاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة – خسائر رأس المال الثابت في قطاع غزة بما يزيد عن 29.9 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من ضعف الناتج المحلي للضفة والقطاع قبل اندلاع الحرب.هذه الأرقام تترافق مع مشهد ميداني خانق: بطالة تصل إلى 80% في غزة، و33.5% في الضفة الغربية، وانهيار واسع في الحركة التجارية والاستثمارية، وتدهور ثقة القطاع الخاص بالبنوك والحكومة على السواء. وما يزيد الطين بلّة هو تراجع المساعدات الدولية التي كانت تشكل حتى عام 2008 نحو 27% من الناتج المحلي، لتتراجع إلى 2% فقط في 2023، قبل أن ترتفع مؤقتًا إلى 6% في 2024 في محاولة طارئة للاستجابة الإنسانية للحرب، لكنها لم تكفِ لوقف النزيف.ما يجري اليوم ليس نتيجة الحرب وحدها. فالتقرير يشير بوضوح إلى أن الأزمة متجذّرة: الحصار الإسرائيلي طويل الأمد على غزة، السيطرة على المعابر والموارد، تجميد أموال المقاصة، الانقسام السياسي، والفساد أو سوء الإدارة المالية المزمن. كلها عوامل أدت إلى تآكل قدرة الحكومة على إدارة مواردها، في ظل انكماش الاقتصاد، وتراجع الاستثمارات، وعجز متزايد في الموازنة العامة.ويحذّر البنك الدولي من أن غياب إصلاحات حقيقية في منظومة الإنفاق، والإصرار على تجاهل هيكلة الدين، والاعتماد المفرط على البنوك المحلية لتغطية العجز، سيؤدي إلى أزمة سيولة شاملة قد تعصف بالقطاع المصرفي نفسه، وتضع الاقتصاد بأكمله في مهبّ العجز التام. اللافت أن أحد أكثر مظاهر الأزمة فداحة هو ديون صندوق التقاعد التي قاربت ثلاثة مليارات دولار، والتي يرى فيها التقرير "قنبلة موقوتة" تهدد المتقاعدين الحاليين والمستقبليين، وتجعل استدامة النظام التقاعدي في مهب الريح.السلطة الفلسطينية اليوم أمام اختبار وجودي، فالوضع لم يعد يحتمل مقاربات تجميلية. المطلوب، بحسب التقرير، خطة طوارئ تتضمن ترشيد الإنفاق، تحسين الشفافية المالية، هيكلة الدين العام والمتأخرات، توسيع القاعدة الضريبية بعدالة، واستعادة أموال المقاصة، وكل ذلك ضمن خطة استجابة مالية شاملة بالتنسيق مع الجهات المانحة. إن استمرار هذا المسار الانحداري ينذر بانفجار اجتماعي وسياسي لا يقل خطورة عن أي تصعيد عسكري، حيث ستُمسّ الرواتب، والخدمات الأساسية، وحقوق الناس، ومعها الثقة بالسلطة نفسها.ما تسجله تقارير البنك الدولي ليس مجرد سرد رقمي، بل هو محاولة دقّ ناقوس الخطر الأخير قبل فوات الأوان. فأمام هذا المشهد المالي القاتم، لا مفرّ من مكاشفة سياسية ومالية، تقرّ بأن استمرار غياب الإصلاح، والتخبط المالي، والتعامل السياسي البطيء مع أزمات بحجم انهيار صندوق التقاعد أو تجميد رواتب الموظفين، سيدفع بالجميع إلى نقطة اللاعودة.