نشر بتاريخ: 2025/08/21 ( آخر تحديث: 2025/08/21 الساعة: 10:39 )
عبد المجيد سويلم

الصراع على أشدّه، والحرب الشاملة على الأبواب

نشر بتاريخ: 2025/08/21 (آخر تحديث: 2025/08/21 الساعة: 10:39)

لم أعد أذكر من الذي قال: عندما تتحوّل القضايا الكبرى والمصيرية عند شعب من الشعوب إلى قضايا صغيرة، وتتحوّل القضايا الصغيرة إلى قضايا كبرى نكون في الواقع أمام الانهيار.

أقصد أن الذي لا يرى بأن أميركا ودولة الاحتلال لا تخوضان على مستوى الإقليم كلّه حرباً وجودية بما يتعلّق بالمشروع الصهيوني في صيغة دولته الصغرى الحالية، وفي صيغة دولته الكبرى التي تسعى دولة الاحتلال للذهاب إليها، مهما كلّف الأمر، وحرباً مصيرية بما يتعلّق بالمصالح الأميركية في هذا الإقليم، الذي يشكّل الحصن الوحيد لهذه المصالح، والقلعة الأخيرة التي «يجب» الاستماتة بالدفاع عنها، درءاً للأخطار التي تهدّد هذه المصالح في حالة الانكسار التي يمكن أن تنتج عن خساراتها، بعد أن تكرّست هزيمة «الغرب» كلّه في الصراع الدولي ضد «الشرق الجديد».. الذي لا يرى هذا كلّه، وما زال مشغولاً بصغائر وسفاسف وتفاصيل هذا الصراع هو في الحقيقة غائب عن المشهد، ومُغيّب عن كل معادلاته وحقائقه.

وبالاستناد إلى مقولة كنا، ولا نزال نراها المقولة المنطلق، والمقولة الفصل في صراع هذا الإقليم ومعادلاته والتي مفادها أنه وبعد أكثر من 700 يوم من الحرب في هذا الإقليم لم تتمكن أميركا من حسم أي ملف حقيقي من ملفّات هذه الحرب، باستثناء الانهيار السوري بعد أن حسمت «الأردوغانية» أمرها.. باستثناء هذا الانهيار، وهو انهيار كبير وهائل على كل حال، فإن كل ما حقّقه التحالف هو «إنجازات» قاصرة عن تحقيق انتصار حاسم، بل على العكس من ذلك فإن هذه الإنجازات بالذات ليست سوى أرباح مؤقتة مقابل خسارات دائمة وقادمة لا محالة إذا لم يتم استكمال الحرب في كل ساحاتها وعلى كل جبهاتها بهدف حسم هذا الصراع، ولهذا بالذات فنحن اليوم أبعد ما نكون عن «تجميده» في كل الإقليم، وأقرب من اي وقت مضى على اشتعاله من جديد.

المؤشّرات على رؤوس الأشهاد

في فلسطين يماطل بنيامين نتنياهو كي يستمر بالحرب الإبادية، ويهرب من الاتفاق «المؤقّت» نحو الصفقة الشاملة، كما كان قد هرب من «الشاملة» نحو «الجزئية»، وعندما توافق «حماس» على 98% من خطة ستيف ويتكوف يستدعي الاحتياط لحرب يعتبرها «معركة الإخضاع النهائية»، وعندما يخرج مليون إسرائيلي في الشوارع ضد استمرارها يستعجل خطواتها حتى لو أن ثلاثة أو اربعة ملايين إسرائيلي يمكن أن يخرجوا إلى الشوارع في الأسبوع القادم.

نتنياهو يعرف أنه لا يملك القوات الكافية «لحسم» معركة غزّة، ويستجدي تعبئة خمسة أو عشرة آلاف من يهود العالم، وليس بمقدوره أن يعطي جيشه الفاشي فسحةً صغيرة للراحة أو صيانة المعدات، ويصرّ على الشروع بالحرب الدموية في أسرع وقت مضى، فهو ليس على أيّ استعداد لوقفها، لأنه يعرف أن وقفها ليس مجرّد هزيمة شخصية خاصة، وهزيمة قد تكون نهائية لجماعاته كلّهم، وإنّما هزيمة للمشروع وللدولة لن يتمكّن مطلقاً، وأبداً من العودة إلى محاولة ترميم ما انهار منها.

وعندما يقول توم باراك نفسه بعد أن «فهم» رسالة الأمين العام لـ»حزب الله» اللبناني نعيم قاسم جيداً بأن الخطوة القادمة باتت مطلوبة من الجانب الإسرائيلي، ويصرّ نتنياهو على أنه ليس معنياً لكل هذا الأمر، وأن على الدولة اللبنانية وضع مسألة سحب سلاح الحزب على جدول الأعمال التنفيذي، وتقوم القوى المتصهينة بدقّ طبول الحرب العدوانية ضد الحزب، وضد «الثنائي»، وضد المكوّن الأوّل، الاجتماعي والسياسي والميداني في لبنان، وهو المكوّن الشيعي فهو في الواقع ذاهب إلى أعلى درجات التوتير والتفجير.

وعندما يقول رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير نفسه بأن المعركة «الأخيرة» على غزّة ليست سوى معركة من سلسلة معارك قادمة مروراً بلبنان واليمن والعراق، وصولاً إلى إيران، فهذا يعني أن الملفات لم تُحسم، وهذا يعني، أيضاً، أن الحرب يجب أن تستمر، وأن «إسرائيل الكبرى» هي النتيجة التي يبحث عنها نتنياهو بعد استكمالها، وليس تلك النتيجة التي تمخّضت عنها «حرب العامين» حتى الآن.

ولهذا يبدو أن الحديث عن موافقة «حماس» من عدمها، أو التبكير والتأخير في ردّها مضحك، ويثير الدهشة والاستهجان بعد الاستغراب، ويبدو القصور في قراءة المشهد الواقعي لهذه الحرب، ولهذا الصراع، ولكل معطياته ومعادلاته أكبر من قدرة أحد على التستُّر خلفه، والتمترس في خنادقه الوهمية، والخلفية، أيضاً.

من يريد أن يفهم نتنياهو باعتباره صاحب مشروع متكامل حول «وجودية» هذه الحرب، وحول مصيريتها لأميركا بدءاً من الهجوم على مدينة غزّة، ومخيّمات الوسط، مروراً بلبنان، وصولاً إلى الحرب على إيران، واستحالة ربحها كمعركة، وكحرب شاملة فإن عليه أن يفهم بأن الاستحالة مردّها يكمن في المعطيات والوقائع التالية:

أوّلاً: إذا وقفت الحرب انتهت فرصة تفادي صورة الهزيمة، وانتفت إمكانية الظهور بمظهر المنتصر من الناحية المظهرية الإعلامية.

ثانياً: صورة الدمار تحوّلت إلى الصورة الوحيدة لهذا «الانتصار»، وهي نفس الصورة التي يتحدث عنها عُتاة العنصرية الإسرائيلية، وهي نفس الصورة التي طلب بن غفير تعليقها أمام آلاف المناضلين في السجون الإسرائيلية للنيل من معنوياتهم كما يأمل، وكما يتمنّى.

ثالثاً: العزلة السياسية التي فرضتها شعوب الأرض كلّها على دولة الاحتلال، والتي بدأت تصل مراكز صنع القرار في بلدان «الغرب» تحديداً ما زالت لم تصل في الواقع إلى الحدّ الذي يجبرها على التراجع، أو حتى المراجعة.

رابعاً: ما زالت أميركا تسير خلف إستراتيجية نتنياهو بالحرب الهمجية التي لا تنتهي، وتدعمها، وأحياناً تحرّض عليها كما فعل ويفعل دونالد ترامب حتى الآن، ولن تتراجع أو تراجع دولة الاحتلال حساباتها قبل أن تحدث على هذا الصعيد بالذات تغيرات جوهرية، أو تغيّرات لا يمكن القفز عنها، وهي متغيّرات ما زالت مستبعدة طالما أن أوروبا، والعالم العربي ما زال يستجدي أميركا بدلاً من الوقوف في وجهها.

خامساً: لن يتراجع نتنياهو حتى ولو وصل عدد المتظاهرين إلى عدة ملايين، والادعاء لاحقاً بأنه قد أُجبر على وقف الحرب الإبادية ــ في حالة إن تم ذلك على سبيل الافتراض ــ سيكون ادعاءً فارغاً، لأن فريق «المعارضة» السياسية والشعبية العارمة سيدّعي بدوره بأنه قد أنقذ الكيان والمجتمع والجيش من الهزيمة الماحقة، ومن الانهيار الشامل.

هنا إذا تحوّلت التظاهرات إلى عصيان مدني شامل، وتم شلّ الحياة العامّة، وعبّرت قطاعات هامة وحسّاسة وواسعة من الجيش، ومن القطاعات الأمنية عن تأييدها المباشر، أو حتى الضمني لهذه التحرُّكات، هنا فقط سيكون على مؤسّسات «الحكم» التدخُّل المباشر لإزاحة نتنياهو عن هذا الحكم، وهنا فقط يمكن للحرب العدوانية أن تتوقّف.

سادساً: ما زال لدى نتنياهو متّسع من الوقت إلى حين العودة إلى جلسات «الكنيست» بعد العطلة، وحينها فقط يمكن أن يتم إسقاط أو حلّ الحكومة الفاشية وتحديد مواعيد للانتخابات العامّة.

في هذه الحالة، واستباقاً لكل ذلك، وقبل أيام أو ساعات من العودة، يمكن أن يوسّع نتنياهو الحرب التدميرية، ويعلن حالة الطوارئ الكاملة، ويؤجّل الانتخابات إلى ما بعد موعدها الأصلي انتظاراً للنتائج، أو أن يكون قبل موعد العودة إلى الانعقاد قد حقّق نتائج حاسمة تساعده على القبول بحل الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكّرة.

دون ذلك لا وقف للمعارك، ولا للحروب، ولن يكون هناك أي إمكانية لها قبل أن يتغيّر الموقف الأميركي، ويتمرّد الموقف العربي، وقبل أن تصبح الحرب العدوانية واستمرارها خراباً للاقتصاد الأوروبي، وقبل أن يتحوّل دور جماعة «أنصار الله» «الحوثيين» اليمنية من وفي البحر إلى حرب على الوجود الأميركي، وربما اختراقات برّية «حوثية» تهدّد كل توازن سابق في الإقليم الخليجي.

ما يجري تداوله الآن بين أميركا ودولة الاحتلال كل هذه الحسابات، وكل هذه المعادلات، وما يتم بحثه بين إيران وبعض مكوّنات الإقليم هو كيفية تحويل الحرب الوجودية والمصيرية عند التحالف الأميركي الصهيوني إلى حرب وجودية ومصيرية في المحور المقابل.