بين بوابة السفارة وحدود الألم.. سفارة فلسطين في مصر.. حين يطول الانتظار وتختنق الروح
بقلم: شريف الهركلي
بين بوابة السفارة وحدود الألم.. سفارة فلسطين في مصر.. حين يطول الانتظار وتختنق الروح
الكوفية على ناصية شارعٍ هادئ في القاهرة، ترتفع راية فلسطين فوق مبنى سفارتها، ثابتةً في مكانها، بينما أبناء فلسطين عند بوابتها في حركةٍ لا تهدأ… حركة تعبٍ وقلقٍ وانتظارٍ طويل. هنا لا يأتي الناس حاملين ملفات سفر فحسب؛ بل يحملون غزة بكل جراحها، وأنفاس المرض، وحكايات نزوحٍ لم تُكتب لها نهاية بعد.
تحوّلت سفارة فلسطين في مصر، منذ اندلاع الحرب واتساع موجات النزوح، إلى مرآة مكبّرة للألم الفلسطيني. أمام أبوابها يصطف المرضى الذين نجوا من القصف ولم ينجوا من الوجع، وأمهات يحملن تقارير طبية بدل شهادات ميلاد، وآباء يبحثون عن ختمٍ قد يعني حياة… أو يعني تأجيلاً آخر للأمل.
نزوح بلا عنوان
النازح الفلسطيني في مصر ليس سائحًا ولا طالب إقامةٍ مستقرة. هو إنسان خرج من بيته تحت النار، ووصل مثقلاً بالخسارة، يبحث أولاً عن اعترافٍ قانوني بوجوده، قبل أن يبحث عن سقفٍ يحتمي به.
إجراءات الإقامة وتجديد الأوراق والتنقّل بين الجهات تتحوّل إلى اختبارات قاسية لأناسٍ استُنزفت طاقتهم قبل الوصول.
كثيرون يصلون إلى بوابة السفارة وهم يظنون أن النهاية هنا، ليكتشفوا أن الرحلة الحقيقية تبدأ من هذا المكان: مواعيد مؤجَّلة، ملفات “غير مكتملة”، تعليمات تتبدّل، ووقتٌ لا يرحم من لا يملك ترف الانتظار.
المرضى… على حافة الزمن
أما المرضى الفلسطينيون، فحكايتهم الأثقل. بعضهم وصل بتنسيقٍ إسعافي عاجل، وآخرون تسلّلوا إلى مصر بأجسادٍ منهكة وأرواحٍ معلّقة بتقرير طبي. العلاج هنا فرصة للحياة، لكنه فرصة هشّة، مهدَّدة بالتعقيدات الإدارية، وبضعف التنسيق، وبعجز الإمكانات.
أطفال يحتاجون لجراحات دقيقة، مصابون بالسرطان ينتظرون استكمال علاجهم، جرحى حرب تتآكل إصاباتهم مع كل يوم تأخير. وبين المريض وسرير المستشفى، تقف أوراق لا تفهم معنى الألم المستعجل ولا تعترف بعجَلَة الموت.
السفارة بين الإمكان والواجب
لا يمكن إنكار الجهد الذي يبذله طاقم السفارة الفلسطينية، ولا حجم الضغط الواقع عليهم أمام أعداد تفوق الطاقة والقدرة. غير أنّ حجم المأساة أكبر من أن يُدار بمنطق الحدّ الأدنى. اللحظة الفلسطينية الراهنة تحتاج إلى حالة طوارئ دبلوماسية وإنسانية، وإجراءات استثنائية تليق باستثنائية الكارثة.
الفلسطيني في مصر لا يحتاج إلى تعاطفٍ لغوي أو وعودٍ مؤجَّلة، بل إلى آلية واضحة وسريعة، نافذة واحدة تُغلق أبواب التيه، تنسيق فعّال مع الجانب المصري والمؤسسات الدولية، وإحساس حقيقي بأن كرامته مصانة قبل أي ختم أو توقيع.
ما بين العلم والإنسان
العلم الفلسطيني المرفوع فوق السفارة هو رمز السيادة والهوية، لكنه يجب أن يكون أيضاً مظلّة رحمة. فالدولة، قبل أن تكون أوراقاً ونماذج وإجراءات، هي شعور المواطن بأن هناك من يسمعه، ويشعر به، ويقاتل لأجل حقه في العلاج، والإقامة الآمنة، والحياة الكريمة.
اليوم، لا يقف الفلسطيني عند بوابة سفارته في القاهرة ليسأل عن تأشيرة، بل يطرح سؤالاً أكثر بساطة وأقسى وجعاً:
هل ما زال لنا مكان آمن في هذا العالم؟
نهاية مفتوحة على الوجع
وفي انتظار الإجابة، يبقى الانتظار سيد المشهد، ويبقى الألم الفلسطيني واقفاً… في الطابور.
طابورٍ لا تُقاس مدته بالوقت، بل بنبض المريض، وبدمعة أمّ، وبصبر نازحٍ أُنهك حتى العظم.
وإن كانت السفارات وُجدت لتفتح الأبواب أمام شعوبها، فإن بوابة سفارة فلسطين في القاهرة مطالَبة اليوم بأن تكون أكثر من مدخلٍ رسمي؛ أن تكون معبراً للرحمة، لا ممراً إضافياً للوجع.
فالفلسطيني، بعد كل هذا التيه، لا يطلب معجزة…
يطلب فقط أن يُعامَل كإنسان.