مشعل يكشف المستور
مهند عبد الحميد
مشعل يكشف المستور
"حماس" على استعداد لتخزين السلاح الثقيل وإنهاء جميع العمليات المسلحة ضد إسرائيل وتعرض هدنة طويلة الأمد لكنها تتمسك بسلاحها الخفيف الذي تعيد به بناء سيطرتها على قطاع غزة مرة أخرى. دولة الاحتلال تؤكد أنها لن تنسحب من قطاع غزة ولن تتوقف عن استهداف قيادات وعناصر "حماس" والتنظيمات الأخرى وتفجير المباني عن بعد من خلال عربات مفخخة، حيث بلغ عدد الشهداء بعد وقف إطلاق النار في 11 تشرين الأول الماضي وحتى 20 كانون الأول 410 أشخاص وعدد الجرحى 1120 شخصا. أما الدول المرشحة لإرسال قواتها إلى قطاع غزة "قوة الاستقرار الدولية" ترفض مهمة نزع سلاح (حماس) بالقوة وقد تراجعت عن موافقتها بإرسال قوة عسكرية بعضها وافق على إرسال قوة رمزية. ودعا بيان مؤتمر ميامي للوسطاء "قطر، تركيا، مصر" برعاية أميركية إسرائيل و"حماس" للالتزام بجميع بنود خطة ترامب وحث على تشكيل ما يدعى مجلس السلام برئاسة ترامب. في الوقت نفسه، وضعت مستشارة ترامب العقارية ابنته ايفانكا زوجة كوشنر بمشاركة مسؤولين إسرائيليين خطة بديلة بمسمى "شروق الشمس الجديدة" وتقضي بتحويل رفح المدمرة إلى مدينة حديثة تتكون من 100 ألف وحدة سكنية وتستوعب نصف مليون شخص. وهذا يعني بقاء الاحتلال الإسرائيلي في مساحة أكثر من نصف القطاع وستبقى آلة الحرب الإسرائيلية حرة في تدمير البقية الباقية من منازل المواطنين وتشريدهم وفي استهداف بقايا الجهاز العسكري وأي تجديد يطرأ عليه.
ثلاث رؤى تستبق الدخول في المرحلة الثانية من خطة ترامب، إحداها وهي إسرائيلية تشترط نزع السلاح وتفكيك الصواريخ والأنفاق ومنظومات القيادة أولا وبعد ذلك تنسحب إسرائيل وتدخل قوة الاستقرار الدولية ويشرع بالبناء. الرؤية الثانية المدعومة من الوسطاء تدعو إلى أولوية الانسحاب الإسرائيلي كي يتسنى نزع السلاح. الرؤية الثالثة هي رؤية تتضمن تقسيم قطاع غزة إلى جزأين، تتقاسم السيطرة عليه إسرائيل و"حماس". وجميع الرؤى تنطلق وتلتزم ببنود خطة ترامب التي تخضع قطاع غزة لوصاية وسيطرة أميركية إسرائيلية وتطلق يد إسرائيل في تحويل الضفة الغربية إلى مستعمرة إسرائيلية توطئة لضمها رسميا، وتصب في مشروع إعادة بناء السيطرة على الشرق الأوسط الذي أطلقه نتنياهو.
حركة حماس منهمكة في إعادة بناء سيطرتها على القطاع من خلال تجنيد عناصر جديدة وقمع كل معارضة ونقد لسياساتها، واستئناف عمل الشرطة والبلديات وجمع ضرائب واقتطاع جزء من الإيرادات. "حماس" تتشبث بحكمها لقطاع غزة بأي ثمن. هذا ما عبر عنه مشعل في مطالبته إدارة ترامب بالتفاوض مع "حماس" ومعاملتها كما تعاملت مع الشرع الرئيس السوري مقدما أوراق ولاء واستعدادا للانخراط في السياسة الأميركية للمنطقة، قدم إنهاء العمليات العسكرية ضد إسرائيل وتخزين السلاح وعدم استخدامه حتى في الاستعراضات وهدنة طويلة الأمد مع إسرائيل. قدم مشعل على طبق من ذهب مبررات وجود حركة حماس بهذه البساطة والخفة وهي مقاومة الاحتلال وتحرير فلسطين ورفض اتفاق أوسلو مقابل عضوية الحلف الجديد. لم يسقط كلام مشعل سهوا ولم يقتطع من سياقه. فمقاومته التي اتخذت مركز قيادتها الأول في جوار قاعدة "عيديد" الأميركية في الدوحة وكأنها "هانوي المقاومة الإسلامية". والمقاومة التي كانت تتلقى ملايين الدولارات عبر الحقائب التي ترسل من الدوحة إلى مطار اللد "بن غوريون" إلى معبر بيت حانون "إيريز" غزة بقرار إسرائيلي أميركي وبإشراف أجهزة الأمن الإسرائيلية وعلى مرأى ومسمع الجميع. هذه المقاومة كان لها وظيفة مركزية هي إفشال الحل السياسي الدولي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر المنظمة والسلطة بوصفهما الشرعية الفلسطينية والسيطرة على المجتمع الفلسطيني باستخدام أيديولوجية الإخوان المسلمين المتزمتة. ولأن مشعل يعرف جيدا الأدوار والاستخدامات فكان الأكثر سرعة وقدرة على طي صفحة المقاومة مذكرا إدارة ترامب بجهوزيته لدور جديد.
وفي التفاصيل، أغفل مشعل حقيقة أن السلاح الذي ينوي تدميره هو في معظمه مدمر وان ما تبقى من قدرات "حماس" العسكرية يوظف الآن في إعادة السيطرة على المجتمع وفرض الضرائب وقمع المعارضين ولا يستخدم ضد قوات الاحتلال التي تنتهك وقف إطلاق النار بالطول والعرض وهذا ينسجم مع ميزان القوى الذي يسمح باستمرار سيطرة جيش الاحتلال على 58% من أراضي قطاع غزة والتهديد باحتلال مساحات إضافية. ما هو مطروح حتى من قبل قطر وتركيا هو تطبيق خطة ترامب التي تنص على نزع السلاح وإنهاء حكم "حماس" طوعا. لا يوجد بيد "حماس" أوراق مساومة غير دور جديد هو الحفاظ على أمن غلاف غزة ومستوطناته من مقاومين جدد، ومنع جماعات متطرفة من إشاعة الفوضى والعنف داخل قطاع غزة بما يهدد أمن إسرائيل وفي هذا السياق فإن الهدنة لا تباع ولا تشترى ولا تنسجم مع بند إنهاء الأعمال المسلحة ضد إسرائيل الذي عرضه مشعل.
يبقى بند دور حركة حماس في الاستمرار بفصل قطاع غزة عن الضفة ومنع إقامة دولة فلسطينية في إطار الشرعية الفلسطينية ـ المنظمة والسلطة ـ، هذه المهمة أصبحت مناطة بدولة الاحتلال مباشرة من خلال تدميرها لقطاع غزة وتفكيك بنية المجتمع الفلسطيني وإضعاف وخنق السلطة ومن خلال الاستيطان الزاحف والتطهير العرقي في الضفة الغربية وصولا إلى الضم والتهويد، بعد تدمير مقومات حل الدولة الفلسطينية بتأييد أكثرية كاسحة في الكنيست والمجتمع الإسرائيلي وعوامل أخرى، خاصة دور "حماس". حتى دور الإخوان المسلمين المرتبط بالسياسة الأميركية تراجع من حيث الأهمية بعد 7 أكتوبر وبعد الاتفاقات الإبراهيمية التي فاقت أهمية دولها المالية والجيوسياسية بما لا يقاس بأهمية تنظيمات الإخوان المسلمين ومراكزها المنتشرة.
أيضا تراجعت أهمية الإخوان المسلمين في غياب وانطفاء قوى تحرر ديمقراطية وعقلانية ونخب ثقافية متنورة ومستقلة وبعد أن أنجز الإسلام السياسي ومعه البترول والغاز دولار التحويل الرجعي المحافظ في المجتمعات العربية والإسلامية والجاليات المسلمة في الغرب.
بعيدا عن احتمال تراجع الدور الوظيفي للإخوان المسلمين وبخاصة "حماس"، فإن ضيق أفق قيادة حركة حماس بالإضافة إلى أدائها السياسي الهابط أثناء حرب السنتين وبعد وقفها، ما زالا يُدفِّعان الشعب الفلسطيني أثمانا باهظة ويعرضانه للمزيد من الخطر والعذاب. ما يهم قيادة "حماس" استمرار حكمها للمجتمع في قطاع غزة بأي ثمن وحتى لو أقيم على نصف قطاع غزة وفوق أنقاضه، لا يهمها إعادة الإعمار والبناء والتعليم، لا يهمها وقف الحرب نهائيا، لا يهمها إزالة الذرائع أمام حكومة عنصرية كهانية، لا يهمها إن كان تقديرها وحساباتها خاطئة، فهي تنتقل من تجريب إلى آخر ولا تعترف بأخطاء ولا تحاسب نفسها على الكارثة التي ساهمت في صنعها للشعب وأعادته مقامرة 7 أكتوبر اكثر من نصف قرن للوراء.