لم يكن سؤال الدور الصيني ومستقبله في بنية النظام الدولي جديداً، أو مستجداً. إنه سؤال ضاغط بقدر وطأة افتقاد التوازن في العلاقات الدولية، يطرح نفسه من وقت لآخر كلما طرأ تطور جوهري، أو رمزي، يومئ إلى تحوّل ما محتمل في العلاقات الدولية.
السؤال طرح نفسه مجدداً بإلحاح ظاهر؛ إثر استعراض القوة العسكرية الصينية في قلب أشهر ميادين العاصمة بكين «تيان آن مين».
الرسائل السياسية تصدرت المشهد العسكري، ولم تكن خافية على أحد في طلب التوازن بالعلاقات الدولية.
بصياغة الرئيس الصيني شي جينبينغ: «تواجه الإنسانية مرة أخرى خيار السلام أو الحرب.. الحوار أو المواجهة»، داعياً إلى «ضرورة بناء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.. يوازن بين النفوذ السياسي والاقتصادي، ويمنح الدول النامية فرصاً أكبر للتأثير».
أراد أن يقول: إن بلاده جاهزة ومتأهبة للخيارات جميعها.
التاريخ حاضر في خلفية الاستعراض العسكري، لكنه ليس موضوعه.
بإيقاع السنين، فإن مرور ثمانين سنة على انتصار المقاومة الشعبية الصينية على الاحتلال الياباني بالحرب العالمية الثانية يستدعي مراجعة التاريخ دون استغراق فيه.
الحاضر ماثل بكل تحدياته، وسؤال المستقبل يطغى على ما سواه.
الاستعراض العسكري صمّم بصورة مقصودة حتى يكون واضحاً أمام اللاعبين الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، أنه لا يمكن تجاهل الدور الصيني ومصالحه وتطلعاته لتوحيد كامل أراضيه.
استعادة تايوان إلى الوطن الأم هدف إستراتيجي ووجودي كامن في الاستعراض العسكري الضخم. هذه المسألة بالذات تدخل في صلب صراعات المستقبل على القوة والنفوذ بشرق آسيا، وتمثل تهديداً مباشراً للإستراتيجيات والمصالح الأميركية والغربية.
تبدّت في الاستعراض العسكري مستويات القوة، التي وصلت إليها بكين في إنتاج الأسلحة المتقدمة من طائرات ودبابات وصواريخ باليستية عابرة للقارات.
كان ذلك تحدياً معلناً للتحالف الغربي كله، الذي ينتابه ضعف وتفكك غير مسبوق، ومستقبل حلف «الناتو» نفسه معلق على مجهول.
لم يتردد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الإعراب عن ضيقه البالغ من التحدي الصيني المستجد، كأنه استهدفه هو بالذات، كما قال حرفياً!
بشيء من السخرية المريرة، قال مخاطباً الرئيس الصيني «شي»: «أبلغ تحياتي للرئيس الروسي بوتين والرئيس الكوري الشمالي كيم لمشاركتهما في المؤامرة على الولايات المتحدة»!
استبعد بوتين حديث المؤامرة بداعي حاجته الإستراتيجية إلى تعاون ما مع ترامب لإنهاء الحرب الأوكرانية بما يوافق المصالح الروسية.
الأميركيون والأوروبيون في حاجة إلى بعضهما الآخر لمواجهة التحدي الصيني، غير أن شخصية «ترامب» وخياراته السياسية والإستراتيجية تجعل من الصعب التوصل إلى تفاهمات مشتركة.
بالنظر الأوروبي، فإن الاستعراض العسكري يؤسس لمرحلة جديدة في آسيا، ويمثل بالوقت نفسه أخطر تحدٍّ للنفوذ الأميركي والغربي.
كان لافتاً مشاركة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في اجتماعات منظمة شنغهاي للتعاون، وحضوره الاستعراض العسكري مع زعماء وممثلي نحو 25 دولة.
الاقتراب الصيني الهندي بذاته تطور بالغ الأهمية بأوزانهما السكاني والاقتصادي والإستراتيجي.
إنه مشروع انقلاب إقليمي، له ما بعده في الشرق الآسيوي.
كان إفراط ترامب في حروبه التجارية مع خصومه وأصدقائه على قدم المساواة داعياً إلى شرخ لا يستهان بخطورته في علاقاته مع الهند. كانت عودة نيودلهي بقوة رد الفعل إلى شراء النفط والغاز الروسيَّين بأسعار تفضيلية شرخاً آخر.
ثمة شيء جوهري يتغير في بنية النظام الدولي المتهالك، أكبر من تجاهله وأقل من إصدار أحكام أخيرة.
رغم تراكم المال والسلاح إلى مستويات قياسية، فإن الصين ليست في عجلة من أمرها للعب أي أدوار عظمى، كأنها تجلس بصبر على حافة النهر في انتظار جثة عدوها طافية، فسياسة النفس الطويل من مقومات الحكمة الصينية، كما صاغها فيلسوفها الأكبر «كونفوشيوس» في العهود الغابرة.
في أقل من 50 سنة بُنيت الصين من جديد على أسس حديثة، حركة الاستثمار تمضي بكامل قواعد الإدارة الرأسمالية في إطار مخطط الدولة، التي أتاحت للمنتجات العالمية الشهيرة من وجبات الطعام السريعة إلى السيارات والملابس والأجهزة الإلكترونية أن توجد في سياق صيني محكم، يراكم الخبرة بالحداثة، ويتيح لمواطنيه من أبناء الطبقة الوسطى ذات مستوى ما يتمتع به نظراؤهم في العواصم الغربية.
هدمت أغلب أحياء العاصمة وبنيت من جديد، ناطحات سحاب تستولي على مشاهدها كأنها تنافس نيويورك، ومترو أنفاق يفوق نظيره الباريسي، وشوارع فسيحة تنتظم فيها حركة المرور بسلاسة، رغم الكثافة السكانية باستثناء فترات الذروة.
يمكن وصف التجربة الصينية بـ»رأسمالية الدولة».
يصعب نسبتها إلى أفكار ماو تسي تونغ إلا بقدر تراكم التجربة، فقد فتح الباب واسعاً للتغيير ونقل البلد كله من حال إلى آخر، من التخلف المفرط وحروب الأفيون ومستوطنات الذباب إلى القرن العشرين وحقوق مئات الملايين في العدالة والتنمية والحياة بكرامة.
الانتساب إلى ماو مسألة شرعية، غير أن الماوية، من حيث هي أفكار وتصورات وسياسات تكاد تكون قد طويت.
دأب الصينيون على مدى سنوات طويلة أن يقولوا: «لسنا دولة عظمى»، لا يتدخلون في الأزمات الدولية الكبرى إلا بحساب مشروع طويل الأمد، لكنهم لا يتوقفون عن بناء القوة إلى حدودها القصوى الممكنة.
هذا خيار إستراتيجي يحكم الصين، ويحكم أي إجابة عن سؤال المستقبل.