ما حدث في طولكرم يوم الخميس الماضي يتجاوز كونه ردًا أمنيًا على انفجار عبوة ناسفة قرب حاجز «نيتساني عوز»؛ إنه رسالة سياسية مكشوفة تؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي ماضٍ في سحق كل القوانين والمواثيق الدولية ودفن أي أمل في السلام. مشاهد سوق عشرات المدنيين الفلسطينيين في الشوارع، أيديهم مرفوعة وكرامتهم منتهكة أمام عدسات الكاميرات، ليست مجرد إجراء عسكري، بل هي انعكاس مباشر لنهج الحكومة الإسرائيلية الحالية بائتلافها اليميني المتطرف، الذي يجاهر قادته يوميًا بأن الفلسطينيين عقبة أمام "أمن إسرائيل"، وأن الحل يكمن في مزيد من القمع والتهجير.
طولكرم، المدينة التي ما زالت تلملم جراحها بعد تدمير مخيماتها وخراب بيوتها في الاجتياحات المتكررة، والتي تحاول بشق الأنفس إعادة الحياة إلى شوارعها ومدارسها، تجد نفسها مجددًا مستهدفة في كيانها وذاكرتها الجمعية. ما جرى الخميس ليس صدفة، بل ينسجم تمامًا مع تصريحات وزراء وقادة اليمين الإسرائيلي المتطرف الذين يحاولون قتل فكرة السلام من جذورها، وتحويل الاحتلال إلى أمر واقع دائم يفرض بالقوة والإذلال.
من منظور القانون الدولي، ما جرى يمثل انتهاكًا صارخًا لروح ونصوص اتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة. المادة 33 من الاتفاقية الرابعة تحظر العقوبات الجماعية، والمادة 27 تؤكد وجوب احترام الكرامة الإنسانية للمعتقلين والمدنيين تحت الاحتلال. لكن صور المعتقلين في طولكرم، المهانين والمذلّين أمام عدسات العالم، تقدم الدليل الحي على أن هذه النصوص أصبحت حبراً على ورق تُداس تحت بساطير الجنود.
إن الخطورة الحقيقية تكمن في أن هذه السياسات لم تعد إجراءات أمنية مؤقتة، بل باتت عقيدة سياسية لحكومة يمينية متطرفة تسعى إلى قتل أي أفق للتعايش أو الأمن المشترك. حين يُعاقب المدنيون الفلسطينيون جماعياً على أي عمل مسلح، فهذا ليس فقط خرقاً للقانون الدولي، بل هو إعلان حرب مفتوحة على فكرة السلام نفسها. حكومة إسرائيل اليوم تزرع بذور انفجار دائم، وتدفع المنطقة إلى دوامة من العنف وانعدام الاستقرار تحت مقولة الدفاع عن النفس وما تدعيه محاربة الإرهاب.
وأمام هذه الانتهاكات الصارخة، فإننا نطالب منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها ذات الصلة بتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية، والتحرك العاجل ضد الإجراءات التعسفية بحق المدنيين الفلسطينيين العزّل. كما ندعو جميع المنظمات الإنسانية والحقوقية داخل إسرائيل إلى رفع صوتها عالياً دفاعاً عن الكرامة والحقوق والحريات الإنسانية الأساسية، لأن الصمت لم يعد خياراً مقبولاً. نحن نؤمن أن هناك أصواتاً إسرائيلية ما زالت تدرك أن أقصر الطرق لتحقيق الأمن والاستقرار لا يمر عبر الإذلال والعقوبات الجماعية، بل عبر السلام العادل والإقرار بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير والعيش المشترك
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن كافة الاتفاقيات المعقودة مع منظمة التحرير الفلسطينية أصبحت من الماضي، ولم يعد لها أي قيمة سياسية أو عملية. ما يجري اليوم، وما جرى في طولكرم بالأمس، يعكس الإضعاف الحقيقي للسلطة الفلسطينية وإظهارها بمظهر العاجز حتى عن الدفاع عن كرامة مواطنيها، في مقابل صورة الاحتلال الإسرائيلي الذي يفرض نفسه بجبروته وقوته كالقوة المسيطرة الوحيدة على الأرض. هذا الواقع يعيدنا إلى مشاهد القرن الماضي، حيث اضطرت شعوب مضطهدة في جنوب أفريقيا وكوسوفو وغيرها إلى مواجهة أنظمة تمييز عنصري واحتلالية لم تفهم إلا لغة الضغط الدولي والشعبي، ولم تنكسر إلا تحت قوة الإرادة الجماعية للحرية والعدالة.
العالم الذي يبرر هذه الأفعال تحت ذريعة "حق الدفاع عن النفس" يغضّ النظر عن حقيقة أن الاحتلال هو مصدر انعدام الأمن. كيف يُعقل أن تُحمّل طولكرم المنهكة والمدمرة مسؤولية فشل إسرائيل في تحقيق أمنها؟ وكيف يمكن أن يقام سلام بينما تُدفن أسسه يوميًا تحت ركام المنازل والمخيمات المدمرة، وتُسحق كرامة المدنيين في الشوارع؟
ما جرى في طولكرم، وما يجري في غزة من حرب إبادة مستمرة، هو عار في جبين الإنسانية، وفضيحة للمنظومة الدولية التي تتشدق بحماية حقوق الإنسان. فكلما منحت القوى الكبرى الاحتلال صك غفران جديدًا، كلما ازداد الفلسطينيون يقينًا بأن معركتهم لم تعد فقط مع قوة عسكرية، بل مع نظام دولي يشرعن الاحتلال بصمته وتواطؤه.
إن طولكرم اليوم، بصمودها وألمها، تفضح زيف الخطاب الإسرائيلي الذي يدعي السعي للأمن، بينما يقتل أي أفق لتحقيقه. ومن هنا، فإن الرسالة الحقيقية لما جرى ليست موجهة للفلسطينيين وحدهم، بل للعالم أجمع بما فيهم الاسرائليين : إما أن تُحيا القوانين والمواثيق الدولية بآليات إلزامية توقف هذه الانتهاكات، أو أن تُدفن العدالة ذاتها تحت بساطير الاحتلال.