فرص ضائعة، وقـضية على المحك
نشر بتاريخ: 2025/09/24 (آخر تحديث: 2025/09/24 الساعة: 15:35)

بعد السنة الأولى من العدوان اختلف الموقف المحلي والدولي اختلافا جذريا.. في شهور العدوان الأولى كان بوسع حماس الانضمام لمنظمة التحرير، وكان لازما على السلطة دفعها وتشجيعها نحو هذه الخطوة، والاتفاق على بلورة برنامج وطني كفاحي موحد يجسد الوحدة الوطنية.. لم يكن العالم آنذاك يطالب حماس سوى بتسليم الرهائن، لم يتبلور حينها موقف دولي جماعي يطالبها بالانسحاب كليا من المشهد وتسليم سلاحها، وخروج قياداتها من القطاع.

في أيلول 2024 قدّم العميد غال هيرش، منسق الأسرى والمفقودين في مكتب نتنياهو عرضا إسرائيليا في مؤتمر MEAD في واشنطن أبرز نقاطه: إطلاق سراح الرهائن دفعة واحدة (كان عددهم 101). مقابل وقف نهائي للحرب، وانسحاب إسرائيلي من كامل أراضي قطاع غزة، وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين على نطاق واسع، ترحيل السنوار وقيادات حماس من غزة إلى دولة ثالثة.. لكن حماس لم ترد على العرض.

توالت العروض من قبل ويتكوف وخرجت مبادرات عربية ودولية بوساطات مصرية وقطرية، وفي كل مرة تضع حماس شروطها فترفضها إسرائيل، ثم تُطرح مبادرة جديدة تكون بسقف أقل، وبشروط إسرائيلية أكثر ظلما، فتوافق حماس على الشروط الجديدة، مع التمسك باشتراطاتها، حتى قامت إسرائيل بقصف الوفد المفاوض. وهذه جريمة جبانة وغير مسبوقة.

لا يراودنا أي شك في أن إسرائيل هي المسبب الوحيد لفشل المفاوضات، وبكل يقين نقول إن شروط ومتطلبات إسرائيل ظالمة ومجحفة، وإنها كانت تماطل لكسب الوقت، وتستغل المفاوضات لقتل المزيد من الفلسطينيين، ولإلحاق أكبر قدر ممكن من التدمير والهدم.

وندرك أنَّ حماس أبدت مرونة كبيرة، وقدمت تنازلات لم تكن حتى تفكر بها قبل العدوان.. لكن يبدو أن الوفد المفاوض لم يستوعب نتائج الحرب، وظل منكرا لها.. وفوَّت كل فرصة كان من شأنها وقف الهزيمة عند هذا الحد، ووقف شلال الدم، وتقليص الخسائر البشرية والسياسية.

اليوم الصورة واضحة، لن يفيدنا تسليم حماس سلاحها، ولا حتى الإفراج عن الرهائن.. صحيح أن هذا ضروري لسحب الذرائع من إسرائيل، ووضعها في مواجهة الموقف الدولي، تمهيدا لإنهاء الحرب.. وكل يوم تأخير يقلل فرص إنهاء الحرب بالشكل الذي نريده.. كل يوم تأخير يعني مائة شهيد، ومزيدا من الدمار، ومزيدا من فرض الشروط الإسرائيلية المجحفة.

الإفراج عن الرهائن كان ممكنا له أن يُـحدث انقلابا جذريا في المشهد لو تم في الشهور الأولى من العدوان.. بعد ذلك صار مطلوبا تسليم السلاح، ومزيدا من شروط الاستسلام.. حتى فقدت ورقة الرهائن قوتها.

مشكلة الوفد المفاوض أنه لم يضع مصلحة الشعب الفلسطيني في المقام الأول، لم يعبأ بمعاناة أهل غزة، لم يكترث بمصير القضية الفلسطينية ولم يدرك حقيقة المأزق الذي تمر فيه، وظل يراهن على تدخلات خارجية وتغييرات إسرائيلية داخلية.. كان همّه الأول الحفاظ على حماس، وحكمها، بهذا المنطق خاض المفاوضات، ولهذا وصلنا إلى هذه الحالة.

مسؤولية استمرار الحرب تقع على عاتق إسرائيل أولاً وأخيراً، وكذلك مسؤولية الدمار والمعاناة التي يتكبدها أهلنا في غزة، ربما أنَّ حماس لم تتصرف كما يجب لمنع تدهور الحالة، ولم تضح بحكمها لإيقاف الحرب عند هذا الحد وإنقاذ غزة وسكانها ومستقبلها.. ومع ذلك، بات واضحا أن الموضوع تجاوز حماس، بل هو أكبر من حماس ابتداءً.. منذ بداية العدوان كان واضحا أن الهدف ليس حماس، الهدف استغلال الفرصة السانحة لتصفية القضية الفلسطينية (ما أمكنها ذلك)، الهدف تخفيف الحمولة الديموغرافية بقتل أكبر قدر ممكن من السكان المدنيين وتحويل حياة من نجا منهم إلى جحيم، تمهيدا لخلق ظروف التهجير (القسري والطوعي).. الهدف ضم الضفة الغربية (أو أجزاء منها) وتوسعة الاستيطان، وخلق الشروط الموضوعية التي تمنع قيام الدولة الفلسطينية.. الهدف تصحيح اليمين الصهيوني للأخطاء التاريخية التي اقترفها المؤسسون الأوائل (الإبقاء على فلسطينيي الداخل إبان النكبة، عدم ترحيل سكان الضفة وغزة في الاحتلال الثاني، ومحاولة إنهاء قضية اللاجئين والقضاء على حق العودة).. الهدف اقتراف أبشع المجازر والجرائم والتعديات بحجة أن إسرائيل تقاتل تنظيما «إرهابيا»، ولا تقاتل شعبا له حقوق سياسية.. كان واضحا أن إسرائيل تستغل البيئة السياسية والإعلامية التي خلقتها الحرب لإنهاء الملفات التي عجزت عن حسمها طوال العقود السبعة الماضية.

بمعنى أن إسرائيل لن تتوقف قبل تحقيق أهدافها الحقيقية، أو على الأقل تحقيق أكبر قدر ممكن منها، باعتبار أنها أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر.. فحتى لو سلمت حماس الرهائن وألقت السلاح، ستجد إسرائيل مبررات أخرى لمواصلة العدوان.. وفوق ذلك، حتى لو توقفت الحرب الآن، ستنتظر إسرائيل هضم نتائجها والاستفادة من تداعياتها بما يحقق مزيدا من أهدافها، أي ستوقف وستعطل إعادة الإعمار، وستعطل مسألة من يحكم غزة، وستظل متمركزة في نقاط معينة لمزيد من القتل والتدمير بحجة وجود بقايا جيوب مقاومة، وربما يستمر هذا الحال سنوات، وخلال تلك الفترة ستظل غزة قطعة من الجحيم وبيئة طاردة بسبب مشاكلها الداخلية، وعدم توفر مقومات الحياة، وربما يحصل اقتتال داخلي بدعم من إسرائيل.

اليوم يتبلور موقف دولي إيجابي داعم لفلسطين، تسونامي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، تظاهرات شعبية متواصلة تجوب شوارع مدن العالم الكبرى ترفع علم فلسطين، وتندد بالجرائم الإسرائيلية.. انكشاف الصورة البشعة والعنصرية والعدوانية لدولة الاحتلال الإسرائيلي.. لكن من اللافت أن الدول والأحزاب والشخصيات الداعمة لفلسطين، والمؤيدة لحقوقه، والحكومات التي تعتبر نفسها صديقة للفلسطينيين، ومن اعترفت مؤخرا بالدولة الفلسطينية.. جميعهم يطالبون بخروج حماس من المشهد.. وقبل ذلك نددوا بهجمات السابع من أكتوبر.

في وقت ما يكون الانسحاب ذكاءً، والتراجع حكمة، والتنازل تضحية، وحتى الاستسلام قد يكون شجاعة.. هذا ليس تبريرا لشيء، إنما هي دروس مأخوذة من التاريخ.. وفي وقت ما (عادة يأتي هذا الوقت بعد فوات الأوان) يكون الاستسلام مذلا وقاسيا ومدمرا.. وهذا مصير من لم يفهم دروس التاريخ، واكتفى بحفظ الشعارات وترديدها.

بالمناسبة، تأتي المفاوضات وشروطها استجابة لنتائج الحرب الفعلية وما تحقق على الأرض، يتفاجأ بها فقط من لم يدرك حقيقة ما دار في الحرب واكتفى بتغطية «الجزيرة».. والسياسة تحكمها قوانين تشبه تماما قوانين الطبيعة والفيزياء والمعادلات الكيميائية.. وهذه القوانين لا تعبأ بالصور الافتراضية التي نخلقها لأنفسنا، ولا يهمها مدى رضانا أو رفضنا لها، أو جهلنا بها.