مغزى الاعتراف بدولة فلسطين
نشر بتاريخ: 2025/09/30 (آخر تحديث: 2025/09/30 الساعة: 20:04)

تعترف 159 دولة بفلسطين، مقابل 165 دولة تعترف بإسرائيل بينها 7 دول عربية. عدد الدول التي تعترف بإسرائيل يعتبر مفاجئا إذا ما جرى مقاربته بمستوى التزامها بميثاق الأمم المتحدة واحترامها للقانون الدولي. هذه الدولة التي تحظى بأعلى نسبة اعتراف دولية تخوض حرب إبادة لليوم 724 على التوالي وقد قتلت وأصابت خلالها 10% من المواطنين في قطاع غزة وهي من أعلى نسب الحروب في العالم، وارتكبت مجازر بحق الأبرياء يندى لها جبين البشرية ودمرت أو محت مدنا ومخيمات وبلدات من الوجود، ورغم كل الكوارث التي صنعتها قامت 3 دول فقط بسحب سفرائها من تل أبيب هي الأردن وتشيلي وكولومبيا بينما قطعت الحكومة البوليفية علاقاتها مع إسرائيل.

حرب الإبادة الإسرائيلية ضد المواطنين في قطاع غزة حفَّزت أهوالها شعوب العالم على القيام باحتجاجات متواصلة تخللتها مطالبات حثيثة بمعاقبة إسرائيل اقتصاديا وعسكريا وأكاديميا وفنيا. نجحت الاحتجاجات في تحويل إسرائيل إلى دولة منبوذة شعبيا ورسميا باستثناءات قليلة وكان أهم مظهر رمزي لها هو انسحاب معظم الوفود الدولية من قاعة الجمعية العامة استنكارا لحضور نتنياهو دورتها السنوية والسماح له بإلقاء كلمة بينما هو مطلوب القبض عليه للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة مسؤوليته عن التحريض على ارتكاب جرائم حرب. يقول أبراهام بورغ: في حرب غزة، انهار كل شيء. عندما رأى العالم فلسطينيين يُقتلون ويُهجّرون ويُجوعون، لم يعد مستعدا لقبول التفسير بأن إسرائيل معفاة من محاسبة النفس بسبب الهولوكوست «لن يسمح بتكرار الهولوكوست أبدا لليهود ولغيرهم» بالنسبة للعالم والعالم الغربي، هو التزام تجاه كل إنسان. بمن فيهم الفلسطينيون في غزة. لم يعد من الممكن التمسك بسردية الضحية الأبدية. إسرائيل الوحشية والقبيحة هل حررت الغرب وبخاصة ألمانيا من العقد القديمة؟ لا شيء يسمح بدعم جرائم ضد الإنسانية.

التناقض بين منظومة القيم البشرية من جهة، وحرب المحو والإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة من جهة أخرى، وضع دول الغرب على المحك أمام شعوبها. أن تكون شريكا لإسرائيل أو غطاء لجرائمها، أي موقف من الإثنين يؤدي إلى اختلال عميق في علاقاتها الداخلية والخارجية. تبنى الاتحاد الأوروبي 16 منظومة عقوبات ضد روسيا ورئيسها بوتين ونفذها ردا على انتهاكاتها في أوكرانيا، بينما اتخذت العقوبات ضد الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل في فلسطين شكلا رمزيا أو محدودا باقتصارها على منع تصدير بعض الذخائر والأسلحة وبيانات الشجب والاستنكار. لم يمس الاتفاق التجاري بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل رغم انتهاك بنود أساسية فيه. واستمرت إسرائيل بالمشاركة في مهرجان الأغنية الأوروبية «يوروفيجن» في عامي الحرب الإسرائيلية، في المقاطعة الاقتصادية بدأت دول أوروبية تبادر بمقاطعة إسرائيل، وكذلك تهدد بمقاطعة الـ"يوروفيجن" إذا ما سمح لإسرائيل بالمشاركة كما وعدت دول إسبانيا وإيرلندا وآيسلندا وهولندا.

التفاعل داخل بلدان الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة بين معارضي إسرائيل وداعميها على خلفية جرائم الحرب والتجويع والتدمير من جهة، وازدواج المعايير وتصدع منظومة القيم الحقوقية من جهة أخرى أفضى إلى تغيير في الرأي العام كان عنوانه انحياز الأجيال الشابة ضد حرب الإبادة والمحو والعنصرية والاضطهاد. وكان من شأن ذلك الاعتراض على انحياز حكوماتهم لدولة إسرائيل الغارقة حتى أذنيها في الإبادة والمحو والتي تحاول معاقبة وصد أي دولة تتعاطف مع الشعب الفلسطيني بالحد الأدنى متجاوزة المصالح الاستعمارية المشتركة. ساد اعتقاد مفاده بأن الصراع الفلسطيني مهما كانت تجلياته المأساوية، لن يؤثر على بلدان أوروبا وأميركا والعالم العربي وأن إسرائيل تستطيع التحكم به واحتواء تداعياته، غير أن حرب غزة أكدت العكس، حين دخلت جرائم القتل والتدمير والتجويع بالصورة والصوت كل بيت. توصلت دول العالم إلى أن احتكار إسرائيل وأميركا لعملية حل الصراع أدى ويؤدي إلى المزيد من تأزيم الصراع. وأن الحل العسكري الإسرائيلي الإقصائي المدعم بأيديولوجيا دينية تعصبية لا يحل الصراع بل يؤججه ويعزز ثقافة الكراهية والإفضاء والعنف. كما أن تجاهل القرارات الدولية والحلول التي بادرت إليها الأمم المتحدة منذ العام 1947 أدى إلى فراغ عبأته غطرسة القوة الإسرائيلية واستخدمته «إيران» كورقة ضغط ولتحسين مكانتها الإقليمية وساد منطق اللا حل والصراع المفتوح.

كان سبب فشل الأمم المتحدة، والوسطاء (الإدارة الأميركية ومصر وقطر) في وقف حرب الإبادة هو غياب وتغييب الحل السياسي من قبل حكومة نتنياهو. كل الأهداف التي اعتمدتها حكومة نتنياهو للحرب خلت من حل سياسي واقتصرت على تحرير الرهائن، وإخراج «حماس» وسلاحها من المشهد، واستبدالها بمجموعات مسلحة وعشائر وعائلات تابعة توطئة لتهجير المواطنين الغزيين. واعتماد خطط ضخمة للاستيطان في الضفة الغربية توطئة لضمها وحل السلطة الوطنية، واستبدالها بسلطات عشائرية تابعة، كما يلاحظ فإن حكومة نتنياهو تستبدل الحل السياسي الدولي للصراع بحل فاشي يقبر القضية الفلسطينية العادلة. عند هذا المستوى من التنمر الإسرائيلي واستعصاء الحل تجرأت دول كبرى بوزن فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا ومعها عشرات الدول الأخرى وبمشاركة عربية فاعلة، بالعودة إلى الحل السياسي الدولي الذي لا يستقيم إلا بإقامة دولة فلسطينية وهي نصف الحل الذي بدأ بدولة إسرائيلية كانت مشروطة بإقامة دولة فلسطينية، غير أنها لم تقم لأكثر من سبب أهمها الرفض الإسرائيلي المطلق. تغير الوضع والاستقطاب الدولي منذ إطلاق المبادرة الفرنسية السعودية المدعومة بالاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، وتقديمها لحل سياسي وتعريفه بإقامة دولة فلسطينية ثم تعزز الاستقطاب الدولي الإيجابي بوثيقة نيويورك التي ربطت الحل السياسي بوقف الحرب وتبادل الأسرى والمختطفين وانسحاب قوات الاحتلال والبدء في مرحلة انتقالية بمشاركة دولية عربية فلسطينية. هكذا تم تجاوز الاحتكار الإسرائيلي الأميركي لـ"اللا حل"، وتم تجاوز التهديدات الإسرائيلية بالضم وإغلاق القنصليات ردا على الاعتراف بالدولة، باستعداد للرد على الابتزاز الإسرائيلي بإجراءات أشد تساهم في تدهور مكانة إسرائيل الدولية والإقليمية. منذ فتحت الأبواب أمام الحل السياسي، فتحت الأبواب أمام إنهاء الحرب بمشاركة عربية ودولية. وقف حرب الإبادة ووقف الحل الفاشي للقضية الفلسطينية إنجاز كبير وشديد الأهمية يفتح الأبواب أمام مشوار طويل من المفترض أن يؤدي إلى الخلاص من الاحتلال، لا شك أن المسار السياسي الجديد تتخلله ضغوط ومحاولات للالتفاف والتراجع ومساعٍ لفرض وصاية وفرض شروط صعبة على «حماس» ومنظمة التحرير والسلطة من منطلقات مختلفة، غير أن إنقاذ المجتمع من التفكك والتشريد والقهر يستحق عمل كل ما من شأنه تحقيق الإنقاذ.