منذ أن جاءت الأخبار المفاجئة بالاتفاق على المرحلة الأولى من الصفقة كمقدمة لوقف الحرب بدأت أتلفت بحثاً عن الكثير الذين انتزعتهم الحرب من حياتنا.
أين الأحبة ؟ أين كل هؤلاء، فما إن بدأنا نطمئن على الأحياء لتبدأ أشواك القلب تلسعنا على من غابوا بلا عودة ...تلك هي الحروب تترك في ذاكرة الشعوب ندوباً موجعة. فما بالنا حين يكون القاتل إسرائيلياً يخزن في ذاكرته وسائل قتلنا منتظراً لحظة التاريخ.
أخيراً أدركت حماس أن لا خيار سوى هذا الخيار والذي طالبنا به طويلاً عندما كانت تطلق مريديها للهجوم على أي أحد رأى المسار الدامي مبكراً ودلها على الطريق، ولم تكن المطالبة إلا لأنها خيارنا الوحيد لوقف الحرب، ليس لأن إسرائيل دولة أقل من متوحشة وفاشية ولا لأن الأمر يحتاج إلى توضيح وفرز المجرم عن الضحية، بل لأن لا خيار لوقف الإبادة إلا بما يشبه استسلام حماس لأن الميدان لم يعطها ما يكفي من مساحات المناورة، ولا المحور ولا الحلفاء مكنوا الحركة من أن تفاوض بأي نوع من التوازن لتجد نفسها وشعبها عراة أمام سكين الذبح ولا خيار سوى أن يعترف الضعيف بضعفه لوقف المجزرة.
من يسأل عن الضمانات يبدو أنه صدق أن المقترح أميركي وليس إسرائيلياً وضعه بنيامين نتنياهو أو حمله معه عندما كان ذاهباً لنيويورك وهو يردد بأنه «ذاهب للتفاهم مع صديقه دونالد ترامب لتحويل الانتصارات الإقليمية إلى استثمارات سياسية».
ولم يكن يحتاج الأمر للكثير لندرك أن الخطة الأميركية هي أحد أبرز ترجمات تلك الانتصارات وأن كل بنودها حققت أهداف إسرائيل من الحرب كما قال بنيامين نتنياهو فهل هي بحاجة لمن يضمنها وهي تحقق أهدافها ؟
ومن يطالب بضمانات يبدو أنه يصدق أيضاً أن دونالد ترامب حالة منفصلة عن شريكه الدائم في كل المؤامرات بدءا من صفقة القرن وصولاً لإبادة القرن، تلك هي الوقائع التي لا نريد تصديقها كحالة مواساة لتحقيق قدر من التوازن النفسي السياسي.
حين قدم ترامب خطته وصفتها بعض الفصائل المسلحة بخطة الاستسلام والإذعان، فما الذي جعل حركة حماس توافق عليها رغم أن الموافقة هي الأكثر صوابية لإنقاذ ما تبقى من المدينة وما تبقى من البشر وما تبقى من مجتمع تعرض لعملية قطع مع سياقه وتحول بين عشية وضحاها إلى نازح بين الخيام، وقد كف عن الاستمرار متعرضاً لأسوأ صدمة ستظل ارتداداتها قائمة لسنوات وهناك شك بإمكانية الشفاء منها. وقد بذل الإسرائيلي كل جهوده لتحطيم من سيتبقى بعد الإبادة حتى لا يتمكن المجتمع من استعادة توازنه.
لقد أبدت حماس ما يكفي من المرونة بل حدها الأقصى الذي يصل للاستسلام، وتم دفعها للموافقة تحت الضغوط الهائلة التي تعرضت لها رغم وضوح السياق منذ أسابيعه الأولى وبدايات الجنون الجوي وبدايات الدخول البري رغم معاناة الناس التي يفترض أنها شكلت أولويات تتجاوز أي أولويات أخرى وضغوطا أقوى من أي ضغوط. لكنّ للسياسة أحكاماً مستفزة أحياناً وللسياسيين أحياناً قرارات شديدة الغرابة وشديدة الكلفة هذا قدر الشعوب دوماً.
هل ستكمل إسرائيل كل المقترح أم ستتوقف عند المرحة الأولى كما فعلت في كانون الثاني الماضي حين أخذت الأسرى وتنصلت من الاتفاق ؟
فعندما سألت الصحافة الرئيس ترامب بعد أيام من الصفقة عن إمكانية الوصول للمرحة الثانية أجاب «لا شيء مضمون» وتلك ظلت حاضرة في أذهان من يتابع ألعاب نتنياهو وترامب، وخصوصاً أنه أصبح واضحاً أن إسرائيل عندما تقوم بمرحلة أي اتفاق فإن ذلك يعني أن الأمر يحتمل قدراً من سوء النوايا وإسرائيل لديها فائض من هذا، حدث ذلك في اتفاق أوسلو وتجربة التنصل الطويلة عندما جعلت قضايا الحل النهائي مؤجلة، وتكرر الأمر هذا العام مع صفقة كانون الثاني. وها هي إسرائيل للمرة الثالثة تقدم اتفاقاً مرحلياً فلماذا؟
لا شيء يدعو إسرائيل للانسحاب، فكل بنود الاتفاق تعطيها أكثر مما أرادت، الأسرى في اليوم الأول، ومفاوضات لاحقة تكون فيها إسرائيل الطرف الذي جرد خصمه من آخر أوراقه ليستكمل عملية الإذعان بشكل أكبر، وسلاح حماس المنصوص عليه في الخطة والوصاية الدولية بمندوبها الصديق الكبير للإسرائيليين توني بلير وكل شيء تمت صياغته بعناية لتحقق إسرائيل كل مطالبها من الحرب فلماذا تنسحب ؟
إلا إذا كانت الحكومة معرضة للتفكك وفقاً لتهديدات سموتريتش الذي يريد التأكد من أن هذه الصفقة لا تعني نهاية الحرب، وهذه معضلة ولكن إسرائيل بالخطة تحقق ما تريد ولا تبقى أي مبررات لاستمرار الحرب لكن يمكن التفكير بذلك إذا ما أرادت إسرائيل ممارسة أكبر عملية خداع وأخذ الأسرى واستكمال مشروع الديمغرافيا واستكمال التهجير المشترك مع ترامب ...وهذا جنون إن فعلاه مرة أخرى.
ولكن المناخات هذه المرة مختلفة، وإذا ما استمرت حماس بنفس المرونة رغم قسوتها لكنها الحل الوحيد الممكن لنزع ذرائع الحرب ومبرراتها. هذا ما يطمئن وهو ما كانت ترفضه الحركة سابقاً.