الذهب والفضة بين التحول الهيكلي والفقاعة المنظمة ؛ قراءة في أسواق المعادن الثمينة
نشر بتاريخ: 2025/10/21 (آخر تحديث: 2025/10/21 الساعة: 19:25)

منذ أن تجاوز سعر أونصة الذهب حاجز الأربعة آلاف وثلاثمائة دولار (4300$)، وتخطت أونصة الفضة مستوى الاثنين والخمسين (52$)، لم يعد ما يحدث في أسواق المعادن الثمينة مجرد ارتفاع في الأسعار، بل هو تحوّل هيكلي يعيد تعريف العلاقة بين المستثمرين والدول وهذه الأصول النادرة، فنحن اليوم أمام مشهد مختلف تماماً عما اعتدناه في دورات الصعود السابقة، إذ لم تعد المسألة مرتبطة فقط بالتضخم أو التراجع في قيمة الدولار، بل باتت مرتبطة بما يمكن تسميته "ما بعد الثقة بالأنظمة النقدية العالمية".

فخلال العام الأخير، لعبت التوقعات المتعلقة بتخفيض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفدرالي الأمريكي الدور الأبرز في إعادة رسم حركة الذهب، ومع تراجع العائد الحقيقي على الأصول الثابتة، اكتسب الذهب جاذبية مضاعفة كملاذ استثماري آمن لا يتأثر بضعف الفائدة، هذا التوجّه ترافق مع موجة شراء كثيفة من البنوك المركزية حول العالم، لم تعد تنظر إلى الذهب كأداة تحوّط فحسب، بل كوسيلة لتعزيز الأمن النقدي في ظل عالم تزداد فيه احتمالات التجميد المالي والعقوبات العابرة للحدود، وهنا يكمن التحول الحقيقي؛ الذهب لم يعد مجرّد أصل مالي بل عنصر من عناصر السيادة الاقتصادية.

تزامن ذلك مع تدفقات هائلة إلى صناديق المؤشرات المتداولة في الذهب والفضة، ما جعل السيولة المؤسسية تلتقي بالطلب الفردي المتصاعد، خصوصاً في الأسواق الآسيوية التي تنشط عادة في فترات ما قبل المناسبات الموسمية. ووسط هذا الزخم، كان من الطبيعي أن تتسارع الحركة الصعودية، في ظل محدودية العرض العالمي للذهب والفضة بسبب ارتفاع تكاليف الاستخراج والقيود البيئية وطول دورة الإنتاج في المناجم الجديدة.

أما الفضة، فهي حالة مختلفة رغم أنها تتحرك غالباً في ظل الذهب؛ فهي تجمع بين طبيعتها التحوطية وطلب صناعي متزايد في قطاعات الإلكترونيات والطاقة الشمسية، ورغم أن سعرها الحالي يقارب اثنين وخمسين دولاراً للأونصة، فإن نسبة الذهب إلى الفضة - والتي تدور حول أربعة وثمانين – (1:84)، تشير إلى أن الفضة ما زالت أقل من قيمتها التاريخية النسبية، وهذا يعني أنها تمتلك هامشاً أوسع للصعود، خاصة إذا استمر الطلب الصناعي وبدأت موجات المضاربات الجديدة التي قد تمنحها أداءً نسبياً أفضل من الذه ب في المدى المتوسط.

وفي قراءة السيناريوهات المحتملة، يمكن القول إن السيناريو الأساسي للاثني عشر شهراً القادمة يتمثل في استمرار الزخم الصعودي التدريجي مع ترقّب تخفيض الفائدة واستمرار المشتريات المركزية، وهو ما قد يبقي الذهب ضمن نطاق يتراوح بين 3800 و4800 دولار للأونصة. أما السيناريو الصاعد فيرتبط باحتمال اتساع التوترات الجيوسياسية أو اندلاع حرب تجارية شاملة أو حدوث تغيّرات جذرية في النظام النقدي العالمي، وهي ظروف قد تدفع الذهب إلى تجاوز حاجز 6000 دولار، مع تفوق نسبي للفضة في المكاسب، ومع ذلك، لا يُستبعد حدوث تصحيح قصير الأجل في حال تأخّر خفض الفائدة أو صدور بيانات تضخمية قوية، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع الأسعار بنحو 10 إلى 20% قبل استئناف المسار الصاعد.

وعلى الصعيد العملي، يبدو من الحكمة أن تحافظ المحافظ الاستثمارية الدفاعية على تخصيص يتراوح بين 5 و15% من أصولها للذهب، مع مساحة تتراوح بين 2 و6% للفضة، بحسب درجة تقبّل المخاطرة. أما المستثمرون الباحثون عن فرص أكبر، فإن الفضة تظل خياراً جذاباً، شرط الدخول التدريجي والموزّع لتجنّب مخاطر التذبذب السعري الحاد. وفي المقابل، ينبغي لصناديق السيولة والثروة أن تعتمد استراتيجية (Dollar Cost Averaging – DCA) والتي تعني "شراء كمية محددة من أصل مالي بشكل دوري وثابت بغض النظر عن سعره في السوق، بدلًا من محاولة شراء الكل دفعة واحدة".

من جانب آخر، على صانعي القرار في الاقتصادات الناشئة النظر إلى الذهب لا بوصفه أداة استثمارية فحسب، بل كجزء من استراتيجية احتياطية نقدية بديلة تسهم في تحصين المراكز المالية للدولة أمام تحولات النظام النقدي العالمي. فالذهب بات أحد رموز الاستقلال المالي للدول وليس مجرد سلعة فاخرة أو مخزون أزمات.

ورغم النظرة الإيجابية العامة، لا بد من الإشارة إلى المخاطر التي قد تكبح هذا الاتجاه، فتأخر خفض الفائدة، أو ارتفاع مفاجئ في التضخم، أو تراجع مفاجئ في مشتريات البنوك المركزية وصناديق الاستثمار الكبرى قد يؤدي إلى تباطؤ مؤقت في الأسعار، كما أن أي زيادة سريعة في الإنتاج العالمي أو نشاط إعادة التدوير يمكن أن يخفف من حدة الصعود على المدى الطويل.

ومع ذلك، فإن الرأي التحليلي الأعمق ” هو أن ما نعيشه اليوم لا يمثل فقاعة بالمعنى التقليدي للكلمة، فالفقاعة تنشأ من ضخ سيولة بلا أساس، أما ما يحدث الآن فهو إعادة تسعير هيكلية لأصول تستعيد موقعها الطبيعي ضمن البنية النقدية العالمية الجديدة، ففي هذا المشهد، يتجه الذهب ليصبح عملة احتياطية بديلة، بينما تمثل الفضة رهاناً على التحول الصناعي والنقدي القادم، وفي السياق الفلسطيني والعربي، تبدو أهمية هذا التحول مضاعفة؛ فالذهب والفضة لم يعودا فقط وسيلة لحماية الثروة الفردية، بل أداة استراتيجية في اقتصاد يعيد تشكيل نفسه وسط اضطراب عالمي متزايد، حيث تتغير فيه معاني الراتب والثقة والدولة على نحو غير مسبوق.