الصياد الفلسطيني… إلى أين؟
نشر بتاريخ: 2025/12/20 (آخر تحديث: 2025/12/20 الساعة: 18:55)

يجدّفون في البحر بأيدٍ عارية، وسيقانٍ مرتجفة، يسابقون الريح بحثًا عن قوت يومٍ بات أثقل من الموج. شريحة الصيادين الفلسطينيين، تلك الفئة المتعبة التي لا تحمل سوى الشباك والأمل، تُلاحَق بزوارق حربية لا تعرف معنى الرزق ولا حرمة البحر. هناك، حيث يفترض أن يكون الأفق مفتوحًا، يُرسم للصياد الفلسطيني سقفٌ من الرصاص، وتُقاس المسافات لا بعمق المياه، بل بمدى فوهة البندقية.

منذ بداية الحرب على قطاع غزة، أُغلق البحر بالكامل في وجه الصيادين، وأُلغيت الأميال المسموحة للصيد وفق الاتفاقيات، ومُنع دخول مراكب الصيد على اختلاف أنواعها. لم يعد البحر موردًا للحياة، بل ساحة حصارٍ إضافية، تُكمّل حصار البر والجو. وحتى مراكب المجاديف الصغيرة التي تقترب من الشاطئ، وترمي شباكها لاصطياد بعض الأسماك التائهة، لم تسلم من المطاردة وإطلاق النار، وكأن السمكة نفسها باتت متّهمة.

الصياد الفلسطيني لا يطلب أكثر من حقه الطبيعي: أن يمدّ شباكه حيث تتجمع الأسماك، في الأعماق التي منحها الله للرزق والحياة. لكن الاحتلال قرر أن يُجزّئ البحر، ويحوّل الأعماق إلى مناطق محرّمة، ويجبر الصياد على الصيد عند حافة الشاطئ، حيث الشحّ والخسارة والتعب المضاعف. صيدٌ قليل لا يساوي جهد الصيادين، ولا عناء الساعات الطويلة في البرد القارس، ما جعل الأسماك سلعة نادرة وغالية الثمن في الأسواق الغزية، وعمّق فجوة العجز في موائد الفقراء.

في كل فجر، يخرج الصياد وهو يعلم أن الرزق ليس وحده ما ينتظره. قد تعود القوارب مثقوبة بالخوف، أو بلا صيد، وربما بلا قوارب. إطلاق نار مباشر، مطاردة عنيفة، اعتقال، جرح وموت، ومصادرة شباك ومحركات… انتهاكات تُسجَّل على صفحة الماء، ثم تُمحى مع الموج، كأن العالم قرر أن يغضّ بصره عن بحر غزة، وأن يصمت أمام حصارٍ يُمارَس على مرأى من الإنسانية.

منع الصياد من الأعماق ليس إجراءً أمنيًا، بل سياسة خنقٍ بطيئة. فحين يُحاصر الصيد، تُحاصر الموائد، وتتراكم الديون، وتتحول المهنة من مصدر كرامة إلى معركة يومية للبقاء. يعود الصياد بصيدٍ شحيح لا يساوي قطرات عرقه المجبولة بالخوف والدم، بينما تقف الأسماك في الأعماق شاهدًا صامتًا على ظلمٍ يمنع الإنسان من أبسط حقوق الحياة.

وعلى شاطئ مواصي خانيونس، في فسحة انتظارٍ مفتوحة على القلق، يجلس البيومي، رجلٌ سبعيني، تحيط به أبناؤه. عيونهم مشدودة إلى الأفق، وإلى الحدود البحرية التي لا تُرى لكنها تُحسّ. تجاعيد وجهه ترسم خارطة الوجع الفلسطيني، وهو يروي حكايات الماضي، عن بحرٍ كان كريمًا، وعن صيدٍ كان وفيرًا، ويداعب ذكرياتٍ تتوق إلى مستقبلٍ جديد، خالٍ من رائحة البارود وصوت الرصاص.

ورغم كل ذلك، يعود الصياد في اليوم التالي. يعود لأن البحر ذاكرة الفلسطيني، ولأن الشباك الممزقة ليست علامة هزيمة، بل إعلان صمود. يعود لأن الاستسلام ليس مهنة، ولأن الكرامة لا تُقاس بحجم الصيد، بل بالقدرة على مواجهة الخوف والمحاولة من جديد.

اليوم، يقف الصياد الفلسطيني على حافة السؤال الكبير: إلى أين؟

إلى بحرٍ أضيق من حلمه؟

إلى أعماقٍ محرّمة كأنها أرضٌ محتلة؟

إلى قوانين تُفصَّل على فوهة بندقية؟

أم إلى عالمٍ يكتفي بالمشاهدة، ويؤجّل العدالة إلى إشعارٍ آخر؟

إن حكاية الصياد ليست حكاية مهنةٍ فقط، بل مرآة لوطنٍ يُطارد حتى في رزقه، ويُحاصر حتى في مياهه. وحين يُحاصر البحر، تُحاصر الحياة نفسها. ومع ذلك، سيبقى الصياد الفلسطيني شاهدًا على أن هذا البحر، مهما طال حصاره واشتدّ ظلامه، لا بد أن يفتح ذراعيه يومًا ليعانق أصحابه الحقيقيين، وأن الأعماق ستعود لمن صبروا طويلًا عند السطح… ولم يتخلّوا عن حقهم في الحياة.