هل يواجه الفلسطينيون خطة التهجير القسري بكارثة إنسانية جديدة؟
نشر بتاريخ: 2025/07/09 (آخر تحديث: 2025/07/10 الساعة: 00:04)

بينما يدخل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره الحادي والعشرين، تتضح ملامح خطة تتجاوز الأهداف العسكرية التقليدية، لتكشف عن مشروع تهجير قسري منظم يهدد بكارثة إنسانية وجريمة تطهير عرقي مكتملة الأركان. فالمشهد الميداني لم يعد مجرد استهداف لبنية تحتية أو فصائل، بل حرب إبادة شاملة تترافق مع تدمير متعمد لكل ما يسمح ببقاء الحياة في القطاع.

في هذا السياق، أعلن وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عن خطة لإقامة ما يُسمى بـ”المدن الإنسانية” في جنوب قطاع غزة، وهي في الواقع مخيمات خيام ضخمة سيُجبر على الانتقال إليها مئات الآلاف من الفلسطينيين المهجرين قسرًا، بعد أن دُمّرت بيوتهم ومناطقهم. ووفقًا لتقارير صحفية إسرائيلية، فإن سكان هذه المناطق لن يُسمح لهم بالمغادرة، مما يجعلها عمليًا معسكرات احتجاز مغلقة تُدار من قبل الجيش الإسرائيلي، وتهدف إلى تجميع السكان في مساحة ضيقة تمهيدًا لترحيلهم خارج القطاع.

تستخدم إسرائيل في ترويج هذه الخطط خطابًا مزدوجًا، يتحدث عن “حلول إنسانية” و”نزوح طوعي”، بينما تدحض الوقائع هذه الادعاءات. إذ لا يمكن الحديث عن طواعية في ظل القصف، ولا عن خيارات إنسانية عندما يُدفع السكان إلى الجوع والموت والدمار، ثم يُصوَّر هروبهم القسري كاختيار حر.

في تصريح بالغ الوضوح، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال اجتماع للجنة الخارجية والأمن في الكنيست: “نحن نهدم المزيد والمزيد من المنازل؛ ليس لديهم مكان يعودون إليه. النتيجة الوحيدة المرجوة هي رغبة سكان غزة في الهجرة خارج القطاع”. هذا التصريح لا يترك مجالًا للالتباس؛ فالهجرة ليست نتيجة جانبية للحرب، بل هدفها السياسي المباشر.

ولم يكن هذا التصريح معزولًا، بل جاء ضمن سلسلة من المؤشرات على وجود خطة ممنهجة للتهجير. فقد كشفت صحيفة “كالكاليست” الاقتصادية الإسرائيلية وثيقة رسمية مسرّبة أعدتها وزيرة الاستخبارات وعضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب الليكود في أكتوبر 2023.

تتضمن خطة ثلاثية المراحل لترحيل سكان غزة إلى شمال سيناء. تبدأ الخطة بإقامة مخيمات خيام مؤقتة جنوب القطاع، يليها فتح “ممر إنساني” لتسهيل الخروج، وصولًا إلى بناء مستوطنات دائمة داخل الأراضي المصرية، مع إقامة منطقة عازلة تمنع العودة.

الوثيقة تصف هذه الخطة، المفارقة، بأنها “خيار إنساني”، وتزعم أن بعض سكان غزة عبّروا عن رغبتهم في المغادرة، في محاولة لتسويق التهجير القسري كخلاص طوعي. إلا أن هذه الادعاءات لا تصمد أمام الحقيقة، فمَن يفرّ من الموت لا يفعل ذلك بإرادته، بل يُجبر عليه دفعًا إلى المجهول.

المفارقة أن هذا المشروع ليس وليد اللحظة. فقد روّجت الوزيرة جيلا غامليل في بداية حرب الابادة لفكرة ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء، ضمن طرح يتجاهل السيادة المصرية والحقوق الفلسطينية، ويتعامل مع السكان كأعباء يجب التخلص منها. أما الوزير كاتس، فقد عبّر عن استعلائه وسخريته حين قال: “الله سيرسل لهم المنّ والسلوى في الصحراء”، في استهانة فجة بالكارثة الإنسانية التي تتكشف.

ولا تقتصر خطط الترحيل على الخطاب الأمني أو الإنساني الزائف، بل تشمل أيضًا رؤية اقتصادية متطرفة. فقد طرح معهد “ميسغاف” اليميني الذي يترأسه رئيس مجلس الامن القومي السابق مائير بن شبات اليميني المتطرف وأحد مستشاري نتنياهو الامنيين ، تصورًا يروّج لفكرة أن استيعاب الفلسطينيين يمثل فرصة اقتصادية مربحة لمصر، متجاهلًا الكرامة الإنسانية، ومتاجرًا بمأساة شعب بأكمله.

وفي سياق متصل، كانت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب كانت قد ناقشت مقترحات لإقامة مشاريع سياحية واستثمارية على أنقاض غزة، (ريفيرا غزة) بعد تفريغها من سكانها. لا مكان في هذه التصورات لأي حديث عن الإعمار أو العودة أو العدالة، بل فقط إعادة توظيف الأرض الخالية من شعبها في مشاريع ربحية، في مشهد استعماري متكامل.

كل هذه المعطيات تؤكد أننا لا نواجه مجرد حرب، بل مشروع تهجير قسري ممنهج، ينتهك القانون الدولي الإنساني، واتفاقية جنيف الرابعة، ومعاهدة منع الإبادة الجماعية. بعد قتل عشرات الآلاف، تسعى إسرائيل لترسيخ واقع جديد يقوم على طرد من تبقى من الفلسطينيين، وسط تواطؤ دولي وصمت يعادل الشراكة في الجريمة.

ومع فداحة المشهد، فإن الموقف الرسمي الفلسطيني ما زال محدودًا، مقتصرًا على بيانات الشجب والمناشدات، دون تحرك سياسي فعال يرقى لحجم التهديد الوجودي. ويبدو أن المؤسسة الرسمية لم تلتقط بعد أن ما يجري اليوم قد يكون أخطر تحول في القضية الفلسطينية منذ نكبة 1948.

الصمت الدولي، لا سيما من الدول الغربية، لم يعد صمتًا محايدًا، بل بات يُقرأ كشكل من أشكال التواطؤ. فالتخاذل عن مواجهة جريمة التهجير القسري، والتغاضي عن مشروع تطهير عرقي واضح، يضع العالم أمام اختبار أخلاقي حاسم: هل ينتصر للقيم والمواثيق، أم يواصل التعايش مع الجريمة وكأنها تفصيل صغير في سردية إنكار الحقوق الفلسطينية؟

التاريخ لا يسامح. ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد فصل مأساوي، بل لحظة كاشفة تسائل ضمير العالم، وتضع الجميع أمام مسؤولياتهم. وستظل هذه اللحظة، بكل دمويتها وظلمها، شاهدة على انهيار المعايير، أو ربما ولادة مقاومة جديدة تكتب فصلًا آخر، أشد صدقًا، في الرواية الفلسطينية.