المشتقات المالية في فلسطين ؛ ضرورة لتحصين الاقتصاد في ظل تعدد العملات
نشر بتاريخ: 2025/07/11 (آخر تحديث: 2025/07/11 الساعة: 08:39)

رغم غياب السيادة النقدية، وتعقيدات الواقع الاقتصادي الفلسطيني، فإن الحاجة إلى أدوات مالية متقدمة لم تعد خيارًا، بل أصبحت ضرورة؛ وفي مقدمة هذه الأدوات تقف المشتقات المالية كحل محتمل لمشكلة مستمرة طالما عانت منها السوق الفلسطينية: تعدد العملات، وتقلب أسعار الصرف، وانعدام أدوات التحوّط التي تمكّن القطاعين العام والخاص من إدارة مخاطرهم بكفاءة.في فلسطين، يُستخدم الشيكل كعملة رسمية للرواتب الحكومية والموازنات، بينما تميل شركات القطاع الخاص إلى استخدام الدولار والدينار الأردني في دفع رواتب موظفيها وشراء خدماتها ومنتجاتها من الخارج، بينما يتم تسعير منتجاتها وخدماتها بالشيكل، في ظل واقع اقتصادي غير مستقر، وتبعية قسرية لاقتصاد الاحتلال. هذا التعدد في العملات يعني أن معظم الشركات والمؤسسات، وحتى الأفراد، معرضون بشكل دائم لمخاطر تغير أسعار الصرف، والتي يمكن أن تُلحق أضرارًا مباشرة بالأرباح، والتدفقات النقدية، والالتزامات.من هنا تبرز أهمية إدخال المشتقات المالية إلى السوق الفلسطينية؛ هذه الأدوات، التي تتضمن العقود الآجلة، الخيارات، والمبادلات، تتيح للمؤسسات التحوط ضد تقلبات الأسواق، سواء كانت تتعلق بأسعار الصرف، أو الفوائد، أو حتى أسعار السلع. على سبيل المثال وبشكل مبسط، شركة فلسطينية تصدّر منتجاتها إلى الأردن أو الخليج بالدينار أو الدولار، لكنها تدفع لموظفيها ومورديها بالشيكل، تتعرض لتقلبات قد تفقدها نسبة كبيرة من هامش ربحها، وهنا يمكن لعقد تحوط مبني على سعر الصرف أن يحميها من هذا الخطر.لكن الحديث عن المشتقات المالية لا يتعلق فقط بالتحوّط، بل يمتد إلى توسيع عمق السوق المالية الفلسطينية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز الشفافية في إدارة المخاطر المالية. حتى في السياق الإسلامي، باتت هناك أدوات مشتقة متوافقة مع الشريعة، مثل عقود التحوط المركبة وصكوك المبادلة الإسلامية، التي يمكن أن تناسب طبيعة السوق الفلسطينية وتفضيلاتها الأخلاقية والدينية.ورغم أهمية هذا التوجه، إلا أن التحديات لا تُخفى على أحد، بأن السوق المالية في فلسطين ما تزال ناشئة، وتعاني من انخفاض السيولة وقلة المنتجات المتداولة، ناهيك عن أن الإطار التشريعي والتنظيمي الحالي لا يتيح التعامل بالمشتقات، ولا يوجد حتى الآن نظام لتسويتها أو مراقبتها، بالإضافة إلى الضعف العام في الوعي المالي لدى عدد كبير من المتعاملين، ما قد يفتح الباب لاستخدامات مضاربة ضارة إذا لم تتم إدارتها بصرامة.لكن هذه التحديات ليست مبررًا للتأجيل؛ بل هي في الحقيقة سبب إضافي للبدء الفوري بوضع خارطة طريق وطنية لتطبيق المشتقات المالية بطريقة مدروسة وتدريجية. تبدأ هذه الخارطة بتحديث القوانين ذات العلاقة تحت إشراف هيئة سوق رأس المال، وإنشاء بنية تقنية وتشغيلية آمنة لإطلاق أولى المنتجات، بالتعاون مع البنوك وشركات الوساطة. وفي الوقت ذاته، يجب أن تترافق هذه الخطوات مع إطلاق حملات تثقيف مالي وتدريب احترافي للقطاعين العام والخاص، كي يكونوا جاهزين لاستخدام هذه الأدوات بشكل مسؤول وفعّال.إن إدخال المشتقات المالية إلى السوق الفلسطينية ليس ترفًا ولا تقليدًا للأسواق المتقدمة، بل هو ضرورة تنبع من واقع اقتصادي فريد، تتعدد فيه العملات وتكثر فيه المخاطر، دون أن تتوفر أدوات تحمي رأس المال الوطني. ولعل اللحظة الحالية، بكل ما تحمله من تحديات، تمثل فرصة نادرة لإعادة التفكير في الأدوات والسياسات التي نحتاجها، كي نُحصّن اقتصادنا، ونُبقي على قدر من السيطرة في بيئة تتسم بالتقلب الدائم.