كيف هيمن الغرب على العالم؟
نشر بتاريخ: 2025/08/21 (آخر تحديث: 2025/08/21 الساعة: 21:22)

متابعات: يقول لنا ريجيس دوبريه في كتابه «ما تبقى من الغرب» ما فحواه: هناك عدة نقاط قوة يمتلكها الغرب، وهي التي تؤمن له السيطرة على العالم بدون منازع، وأولها ذلك التماسك الذي لا مثيل له بين كلا الجناحين الأوروبي والأميركي. وأكبر دليل على ذلك أنه أرعب روسيا ما إن اشتعلت الحرب الأوكرانية. ينبغي العلم بأن الولايات المتحدة تسيطر على الغرب كله من خلال حلف الأطلسي. وهذا الحلف يشكل أكبر قوة ضاربة في العالم. وهو الذي يرعب حتى الصين وروسيا. ولولاه لاستطاع بوتين اجتياح أوكرانيا كلها بأقصى سرعة.

أما نقطة القوة الثانية للغرب، فتتمثل في احتكار القيم الحداثية الكونية. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني ما يلي: جميع الدول تتابع في الخارج مصالحها الحيوية الخاصة. وهذا شيء طبيعي. فمثلاً الصين المحرومة من المواد الأولية كالغاز والبترول تحرص أشد الحرص على تأمين شبكات تزويدها بها من شتى أنحاء العالم. إنها تمارس ما ندعوه بـ«الأنانية المقدسة» للدولة. والغرب أيضاً يمارس ذلك على أوسع نطاق. لكنه وحده الذي يتجرأ على تقديم مصالحه الشخصية وكأنها تعبر عن مصلحة البشرية بأسرها! إنه يغلف مصالحه الشخصية الأنانية بغلاف براق تحت اسم حقوق الإنسان. إنه يقدم نفسه على أساس أنه يمثل الضمير الكوني العالمي. وأكبر دليل على ذلك أن مقر الأمم المتحدة التي تجسد هذا الضمير العالمي موجود في نيويورك، لا في موسكو، أو بكين، أو طوكيو، أو نيودلهي... بالتالي فالغرب هو مركز العالم شاء الآخرون أم أبوا.
 

أما نقطة القوة الثالثة للغرب، فتتمثل في تخريج مثقفي العالم وكوادره العليا. ويرى ريجيس دوبريه أن الغرب يخرج كوادر العالم ونخبه الثقافية والسياسية بل وحتى العسكرية. وعلى الرغم من أن الأنظمة لا تنفك تدين الإمبريالية الأميركية وتشتمها على مدار الساعة فإن الطبقات البورجوازية العربية وغير العربية تفضل أن ترسل أبناءها إلى جامعات هارفارد أو بيركلي أو كولومبيا أو كامبردج أو أكسفورد أو السوربون.. إلخ.. فلا أحد يثق بشهادات الجامعات الشرقية. وحتى أمراء الصين الحمر الشيوعيون يرسلون أبناءهم إلى الجامعات الأميركية للتخرج! من يصدق ذلك؟ ينبغي العلم أن أميركا تستقبل كل عام 3000 من القادة الشباب، أو الذين تدعوهم كذلك. وهم صفوة الصفوة أو نخبة النخبة. ومن بينهم بضع عشرات من الفرنسيين وليسوا كلهم من أبناء العالم الثالث. وهي تدربهم في جامعاتها وتجبلهم بلغتها وتصهرهم بثقافتها. وعندما يعودون إلى بلدانهم بعد التخرج يصبحون امتداداً لأميركا في الخارج. إنهم يصبحون بمثابة سفراء غير معينين رسمياً، ومن بينهم رئيس أفغانستان السابق حميد كرزاي، ورئيس جورجيا ساكاشفيلي، وسلام فياض رئيس وزراء فلسطين السابق ومساعد المدير التنفيذي للبنك الدولي في واشنطن، وآخرون كثيرون. لقد خرّجت أميركا في العقود الماضية عشرات الآلاف أو ربما مئات الآلاف من كوادر العالم العليا، ومن كل الجنسيات، والأديان، والقوميات. وهو شيء لم تتجرأ عليه الإمبراطورية البريطانية حتى وهي في أوج مجدها وجبروتها، بالتالي فالإمبراطورية الأميركية لا مثيل لها في التاريخ.

أما نقطة القوة الرابعة للغرب، فتتمثل في تشكيل التيارات الفلسفية والحساسيات الفنية والأفلام السينمائية... إلخ.

بهذا الصدد ينبغي أن نقول ما يلي: أميركا لا تمتلك فقط القوة الخشنة الأخطر في العالم (أي القوة العسكرية) وإنما تمتلك أيضاً أكبر قوة ناعمة (أي القوة الثقافية). فالسينما الأميركية (هوليوود) والثقافة الأميركية والجامعات الأميركية.. إلخ تشكل أكبر جاذبية لأميركا في الخارج. من يستطيع أن يقاوم أفلام جون واين أو كلينت إيستوود أو هارسون فورد... إلخ؟ ليس أنا على أي حال. وقل الأمر ذاته عن الموسيقى الشعبية الأميركية والمشروبات الأميركية ولباس الجينز الأميركي وحتى مطاعم الماكدونالد المنتشرة في شتى أنحاء العالم. وهي تساهم في خضوع الآخرين لها دون أي مقاومة. من يقاوم الفن والعلم والجمال والمتعة والاستهلاك؟ ثم إن الضعيف المتأخر يقلد دائماً القوي الناجح كما يقول ابن خلدون. على هذا النحو تفرض أميركا هيمنتها على العالم من خلال القوة الخشنة والقوة الناعمة، على حد سواء.

ويمكن القول بأن «الكوكا كولا» ربحت حرب فيتنام بعد أن خسرها الجيش الأميركي! والجرائد الأميركية الكبرى تصوغ فكر قادة العالم وعقولهم لأنهم يقرأونها كل صباح، كما كان يفعل جمال عبد الناصر في وقته. صحيح أن تشومسكي كان مرفوضاً من قبل «النيويورك تايمز» ولكن ليس إدوارد سعيد! وعموماً فإن الغرب يسمح بحرية النقد والاعتراض والاختلاف. ففي الغرب كل الديانات لها الحق في الوجود وكل التيارات الفكرية والآيديولوجية بشرط ألا تدعو صراحة إلى الطائفية والعنصرية.

بقيت نقطة أساسية تمثل جوهر الحضارة الغربية، وتفسر سبب تفوقها على كل أمم الأرض. وهي مرتبطة بالنقطة السابقة أو تشكل امتداداً لها. ويلخصها ريجيس دوبريه بكلمة واحدة أو ثلاث كلمات: «امتصاص السلبية النقدية». ماذا يعني هذا المصطلح الخطير؟ ماذا يعني هذا المصطلح العويص؟ إنه يعني أن الغرب يمتص كل ما هو مضاد له ليس عن طريق قمعه وكبته، كما تفعل دول العالم الثالث، وإنما عن طريق تركه يعبر عن نفسه بكل حرية. وحتى ولو كان هذا النقد جارحاً له ومزعجاً جداً له فإنه يتركه يعبر عن نقمته. ولذلك تسمع الشتائم يومياً ضد الغرب في قلب الغرب! وكذلك المظاهرات. وهنا تكمن عبقرية الغرب، وديناميكيته، وصلابته. «فالأزمة التي لا تقتلني تقويني» كما يقول نيتشه. والنقد الذي لا يدمرني ينعشني ويحييني... أما ما يقتل الحضارات الأخرى فهو اللون الواحد والخط الواحد والفكر النمطي الواحد والقمع الديني والفكري والسياسي. تقريباً لا أحد يتجرأ على أن يفتح فمه في بعض البلدان!

ننتقل الآن إلى النقطة الخامسة التي تفسر سبب تفوق الغرب على جميع حضارات العالم ألا وهي الابتكارات العلمية والتكنولوجية.

في الواقع كان ينبغي أن نبتدئ بها، كما يقول ريجيس دوبريه. فالاختراعات العلمية والتكنولوجية الصارخة هي التي أدت إلى تفوق الغرب على كل النطاقات الحضارية الأخرى في العالم. والآن يحاول الجميع تقليدها. بل وقد حققت بعض الدول الأخرى نجاحات مهمة في هذا المجال. فيوجد الآن مهندسون هنود وصينيون أكثر مما يوجد مهندسون أميركان. ولكن هذا لا يعني أن أميركا أصبحت مسبوقة. فالواقع أن معظم جوائز نوبل للطب والفيزياء والعلوم والاقتصاد تذهب إلى باحثين أميركان أو غربيين عموماً. وبهذا الصدد ينبغي العلم بأن أميركا تشتري العقول الأجنبية برواتب ضخمة جداً إلى درجة أن الفرنسيين يشتكون منها. فهي تسرق عباقرتهم وعلماءهم. فما إن تسمع أميركا بباحث عبقري في أي دولة من دول العالم حتى تقدم له كافة التسهيلات لكي تغريه بالذهاب إليها والعمل في جامعاتها ومختبراتها. لهذا السبب تتفوق أميركا على كل أمم الأرض.
 

وماذا عن الميزة السادسة للغرب؟

هناك خاصية أخرى تفسر سبب تفوق الغرب على جميع شعوب الأرض ألا وهي دولة الحق والقانون والمؤسسات. فحكم القانون هو المهيمن على الغرب، في حين أن حكم التعسف والاعتباط والاستبداد هو المهيمن على الشرق. ينبغي العلم أن أكبر رئيس دولة في الغرب خاضع لحكم القانون الذي يخضع له الكناس أو الزبال، وعندما ينتهكه فإنهم يسقطونه حتى ولو كان رئيس أعظم دولة في العالم. يضاف إلى ذلك أن الغرب يتبع قاعدة ذهبية هي السبب في تفوقه ونجاحه: وهي أنه يضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وأما دول العالم الثالث فكلها محسوبيات ورشاوى ومحاباة للأقارب في التوظيف حتى ولو كانوا فاشلين أو غير أكفياء على الإطلاق... إلخ.

الميزة السابعة للغرب

أخيراً هناك ميزة سابعة للغرب ربما كانت أعظم ميزة. ما هي؟ إنها تتمثل في عبارة واحدة فقط: انتصار التنوير الفلسفي على الأصولية التكفيرية. هنا تكمن عظمة الغرب فعلاً. بدءاً من تلك اللحظة أصبح الغرب سيد العالم. لماذا؟ لأنه انتصر على نفسه بعد صراع طويل ومرير مع أصوليته الدينية. ومن ينتصر على نفسه ينتصر على العالم كله. هنا يكمن سر تفوق الغرب.

لا تعرف روسيا ولا الصين ولا العالم العربي الإسلامي شخصيات فكرية كبرى من أمثال ديكارت وكانط وهيغل وفولتير وجان جاك روسو وماركس ونيتشه وفرويد وبرغسون وبرتراند رسل وميشيل سير وهابرماس... إلخ. هؤلاء هم أساتذة العالم كله وليس فقط أساتذة الغرب. آخر فيلسوف كبير عندنا هو ابن رشد الذي تُوفي قبل 825 سنة. وهؤلاء تجاوزوا ابن رشد بسنوات ضوئية. هل عرفتم سبب التفاوت التاريخي بين العرب والغرب؟