من يتحمّل المسؤولية؟
نشر بتاريخ: 2025/08/27 (آخر تحديث: 2025/08/27 الساعة: 16:22)

اعتاد البعض على اتهام كل من ينتقد حماس في طريقة إدارتها للصراع أو يعترض على أسلوبها في المفاوضات.. بأنه يتساوق مع الاحتلال، ويروج لروايته، ويعفي إسرائيل من الجريمة، ويحمل المسؤولية للضحية... إلخ.

مثل هذه الاتهامات تنطوي على مغالطات عديدة، وهي خلط متعمد، وفهم خاطئ لمبدأ النقد والمحاسبة، بل هي ممارسة لإرهاب فكري بهدف قمع وإسكات كل الانتقادات.

لنبدأ بالأهم؛ كل فلسطيني من أصغر طفل حتى أكبر مسؤول، بل وكل إنسان على سطح الكوكب مهما بلغت درجة ذكائه أو غبائه يدرك بما لا يترك مجالاً للشك أن إسرائيل تتحمل المسؤولية الأولى والرئيسة عن كل الجرائم التي تحدث في قطاع غزة، فالاحتلال هو من يقصف ويدمر ويقتل ويهجّر ويجوّع ويجبر السكان على النزوح ويمنع وصول المساعدات.

قبل ذلك إسرائيل هي المجرمة والمعتدية لمجرد أنها دولة احتلال، لمجرد أنها كيان عنصري يقوم على الأبارتهايد، لأنها نظام استعماري يقوم على أطماع التوسع والاحتلال والاستيطان.. إسرائيل منذ احتلالها لفلسطين وتهجير شعبها وتسببها بالنكبة باتت هي المسؤولة عن كل ما نجم عن احتلالها.. مسؤولة عن تهجير الفلسطينيين، وعن قتل أزيد من 150 ألف فلسطيني، وعن احتلال الضفة والقطاع والجولان، وعن الاستيطان، ونهب الأراضي، مسؤولة عن كل الحروب والاعتداءات وعن تهديد السلم العالمي.

وبالطبع تتشارك في المسؤولية الولايات المتحدة، والدول الغربية التي تؤيد إسرائيل، وتدعمها، وتحميها، وتتغاضى عن جرائمها.

ارتكبت إسرائيل كل الجرائم المحرمة دولياً: الإبادة الجماعية، التطهير العرقي، العقوبات الجماعية، استهداف المنشآت المدنية المحمية بالقانون الدولي، قتل المدنيين، استخدام سلاح التجويع، الحصار، قتل الأطفال، وقصف المستشفيات.. وهذه ليست ادعاءات، بل هي صور حية تنقلها وسائل الإعلام على الهواء مباشرة، وشهادات موثقة لمؤسسات صحافية وحقوقية عالمية، هي حقائق مدعمة بتقارير المنظمات الدولية المختصة: تقارير من مجلس حقوق الإنسان، ومن منظمة العفو الدولية، ومن الوكالات واللجان التي عينتها الأمم المتحدة، إسرائيل مدانة حتى منظمات حقوقية إسرائيلية مثل بتسيلم وغيرها، مدانة من أعلى محكمة في العالم (محكمة العدل الدولية)، وقادتها مطلوبون للاعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية.

جرائم الاحتلال نراها بأعيننا، ونكتوي بنيرانها.. ويراها العالم، تراها المؤسسات والنقابات والبرلمانات والأحزاب والحكومات.. تراها الشعوب والمنظمات المدنية والمشاهير والمؤثرون والرؤساء.

باختصار، لقد تمت إدانة إسرائيل والتنديد بجرائمها، وتحميلها المسؤولية من أعلى المستويات العالمية وأكثرها أهمية وتأثيراً.. لكن دون طائل، على الأقل في المدى المنظور، فقد أدارت إسرائيل ظهرها لكل العالم، واستمرت في عدوانها.

وبحدود اطلاعي كل من كتب ضد حماس، أو انتقدها أو اعترض على نهجها قبل أن يفعل ذلك انتقد إسرائيل وجرائمها، وحمّلها المسؤولية الأولى.. وأتحدث هنا عن الأصوات الوطنية الحرة التي تنتقد بمسؤولية وروح وطنية.. وهم الأغلبية.

لنأتِ إلى ثانياً؛ مسؤولياتنا نحن كفلسطينيين.

اتفقنا أن إسرائيل (ومن يدعمها) هي الطرف المعتدي، ومن يتحمل مسؤولية إيصالنا إلى هذا المستوى من الجحيم.. لكن هل يكفي تحميل إسرائيل كامل المسؤولية، ونعفي أنفسنا من كل شيء؟ هل يصح أن نجعل الاحتلال شماعة نعلّق عليها كل أخطائنا؟

بعد ستة عقود من عمر الحركة الوطنية الفلسطينية وصلنا إلى حائط مسدود، وأخفقنا، يمكنني القول بثقة إن العامل الخارجي يتحمل الجزء الأكبر والأهم من المسؤولية (إسرائيل، أميركا والغرب، الأنظمة العربية، الجغرافيا السياسية..).. لكن العامل الذاتي كان بنفس مستوى الأهمية.. أي سلسلة أخطائنا الكارثية.. تلك الأخطاء والخطايا ارتكبتها قيادة منظمة التحرير وفتح والسلطة الوطنية وسائر الفصائل الوطنية، وقد كتبتُ عنها كثيراً، وكتب مئات غيري وأفضل مني وأكثر قوة.. كتبوا مجلدات في النقد والنصح والمحاسبة والدعوة للمراجعة وتصويب المسار وتقييم الموقف.. وللأسف لم يجدوا آذاناً صاغية.

حتى لا نعود كثيراً للماضي، ولا نكرر المكرر لنبدأ مع مسلسل أخطاء السلطة، حيث أخفقت في تقديم نموذج حكم رشيد يؤهلها أن تتحول إلى دولة وانعزلت عن شعبها.. فتح ترهلت وظلت تقتات على أمجادها.. اليسار انقلب على قيمه ومبادئه وذبل وصار مجرد شعارات.. مؤسسات المجتمع المدني، النخب والمثقفون وقادة الرأي، وحتى الجماهير الكل انكفأ وتراجع وخبا حضوره..

منذ الانتفاضة الأولى رفضت حماس أن تنخرط تحت مظلة القيادة الوطنية الموحدة؛ فشقّت فعاليات الانتفاضة وأضعفتها.. ولما فُتحت نافذة سياسية وبدأ الاحتلال ينسحب من مدن وبلدات فلسطينية وتهيأت فرصة لتأسيس نواة دولة.. صعّدت حماس من عملياتها التفجيرية التي استهدفت العملية السلمية نفسها، بالتزامن مع تصعيد اليمين الإسرائيلي وصولاً إلى تمكين نتنياهو من الحكم.

ولما اندلعت الانتفاضة الثانية، بدلاً من الاستفادة من تجاربنا السابقة تسابقت فتح وحماس على عسكرة الانتفاضة لتنقلب النتائج عكسياً، وترتد علينا سلبياً.. وبعد انسحاب الاحتلال من غزة تهيأت فرصة لنبني منها نموذجاً مصغراً عن سنغافورة، لكننا حولناها إلى نموذج بشع من الفوضى والفلتان الأمني والاستعراضات العسكرية، والصراع على السلطة، حتى أقدمت حماس على سلخ القطاع والاستفراد بالهيمنة عليه وإحداث الانقسام.

في اعتراف لخالد مشعل (أيلول 2016) قال: «استسهلنا الحكم بمفردنا، واعتقدنا أن زمن فتح قد ولى وانتهى، وحل زمن حماس، وهذا كان خطأ فادحاً»، «حاولنا التفرد بقيادة منظمة التحرير».

النقلة الأهم والأخطر في سلسلة الأخطاء تمثلت في هجمات السابع من أكتوبر، التي جلبت الحرب.. الحرب التي تحولت إلى نكبة، ووضعت مصير الشعب والقضية على المحك.

الاحتلال هو المجرم الأول دون شك، لكن من سـهّل له المهمة (سياسياً)، ومن قدم له الذرائع، ومن وفّر له الشرعية لبدء الحرب، ومن يُستخدَم حجة لإطالة أمدها إلى أن تحقق إسرائيل كامل أهدافها، ومن تخلى عن الشعب وتركه لمصيره، ومن اعتبر دماءهم مجرد خسائر تكتيكية، ومن اعتبرهم مجرد أضحيات وقرابين، ومن يريد أن يقاتل بلحوم الأطفال ودمائهم، ومن قال حتى آخر طفل فينا.. هؤلاء يجب أن يتحملوا المسؤولية التاريخية والأخلاقية.

الشعب، الناس المدنيون هم الضحية الحقيقية، ولا أحد غيرهم يستحق أن نسميه ضحية.