يبدو أن الحكومة الإسرائيلية، التي يقودها ثلاثي التطرف بنيامين نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير والتي لا تأبه كثيراً لا بقوانين ولا بقرارات أو معاهدات أو مواثيق دولية، باتت ترتكب من الأخطاء الفظيعة والحماقات ما يدفعها إلى زاوية العزلة الدولية الخانقة التي قد تتحول في كل لحظة إلى عقوبات ملموسة وضغوط جدية.
فمن عمليات قتل المدنيين بصورة مكثفة بحجة ملاحقة المطلوبين إلى تدمير كل المرافق المدنية من مبانٍ وبنية تحتية ومراكز إيواء ومستشفيات ومدارس وغيرها، واستهداف العاملين في المجالات الحيوية المحميين بالقانون الدولي كالعاملين في مجال الإغاثة والصحة والصحافيين وصولاً إلى تجويع المواطنين حتى الموت.
ولا شك في أن عملية التجويع ألحقت أشد الأضرار بسمعة إسرائيل وفاقمت من عزلتها ودفعت عدداً لا بأس به من دول العالم إلى إدانة إسرائيل وفرض بعض العقوبات عليها.
حتى أن بعض الدول أخذت على عاتقها دفع حل الدولتين بالاعتراف بدولة فلسطين.
ويبدو أن كل محاولات إسرائيل للدفاع عن نفسها بإنكار عملية التجويع قد باءت بالفشل.
فحتى المعلومات الصادرة عن الجيش الإسرائيلي عن عدد الشاحنات التي أدخلت من شهر أيار الماضي تشير إلى أن ما دخل حتى الآن لا يصل إلى مستوى 20% من الاحتياج الطبيعي للسكان.
أي أن الاعتراف الإسرائيلي بعدد الشاحنات هو في الواقع يدين إسرائيل.
هذا طبعاً عدا أن ما يدخل قطاع غزة لا يوزع بصورة عادلة ولا يصل لغالبية المواطنين.
وما زاد الطين بلة هو إنشاء «مؤسسة غزة الإنسانية»، التي تحولت من حل للمأساة الإنسانية إلى مشكلة كبيرة ومصيدة موت لطالبي المساعدات.
قتل الآلاف ممن يحاولون الوصول لمراكز توزيع المساعدات التابعة لهذه المؤسسة. كما أن عدد مراكز التوزيع قليل جداً ولا تكفي حتى لتوزيع مساعدات لـ 5% من المواطنين.
وقد باءت بالفشل محاولة استبدال «الأونروا» بالمؤسسة الأميركية.
فالمنظمة الدولية تمتلك أكثر من 400 مركز توزيع منتشرة في كل مناطق قطاع غزة ولديها سجلات بأسماء كل المواطنين وتعتمد نظام رسائل نصية للوصول إلى المستفيدين الذين يصلون للمراكز بنظام وفي أوقات محددة.
كما أن منظمات دولية ومحلية أخرى اعتمدت آليات شبيهة ولديها مراكز كانت تساهم في توزيع المساعدات قبل إنشاء المؤسسة الأميركية سيئة الصيت.
وقد اضطرت إسرائيل تحت الضغط السياسي الدولي الكبير للسماح بعودة إدخال المساعدات لمنظمات دولية محدودة، ولعدد محدود من التجار.
ومع ذلك لم تنتهِ المجاعة فما يدخل قليل بالمقارنة مع الحاجة الكبيرة للمواطنين. وهو ما يجعل إسرائيل إلى اليوم متهمة بتجويع الفلسطينيين.
ولا توجد قناعة لدى الأطراف الدولية بأن إسرائيل تقوم بما يكفي لمعالجة مشكلة التجويع.
وما حصل في مستشفى ناصر من استهداف للصحافيين والعاملين في المستشفى وطواقم الدفاع المدني أول من أمس والذي أدى إلى استشهاد حوالى عشرين مواطناً منهم خمسة صحافيين أضيف لهم صحافي آخر استشهد في مواصي خان يونس، كان جريمة ببث حي ومباشر، لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية إنكارها حيث لا يوجد في المنطقة اشتباك ولا حتى ادعاء بوجود مطلوبين، ما اضطر الجيش إلى الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق، وقيام رئيس الحكومة نتنياهو بإصدار تصريح يعبر فيه عن أسف إسرائيل الشديد عما سماه «الحادث المأساوي».
وهذه الجريمة في الواقع تدلل بشكل كبير على تعمد استهداف الصحافيين.
وقد تعرضت إسرائيل لموجة انتقادات شديدة من المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ومن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحتى الخارجية الألمانية عبرت عن صدمتها لمقتل الصحافيين وطالبت بالتحقيق في الهجوم الإسرائيلي.
كانت هناك إدانات من عدد كبير من الدول والمنظمات الدولية ووكالات الأنباء. حتى الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر عن استيائه من قصف مستشفى ناصر. أي أن ما حصل شكل فضيحة كبرى لإسرائيل، وساهم في إلقاء الضوء بصورة كبيرة على جرائم الاحتلال.
في الواقع، تعمل إسرائيل كل ما يمكن لتشويه صورتها التي كانت قبل حرب غزة على الرغم من أنها لم تكن تعكس الحقيقة.
فالعالم كان يرى إسرائيل بصورة الدولة «الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط. وقد شوش هذه الصورة قليلاً نتنياهو في ثورته ضد الجهاز القضائي.
ولولا هجوم السابع من أكتوبر لربما كان قد سقط وأخرج من الحكم وتم تقديمه للمحاكمة بتهم الفساد.
وهجوم «حماس» أنقذه، ولكنه لم ينقذ إسرائيل وما فعلته في غزة أساء لها كثيراً وساهم في عزلها بصورة لم يسبق لها مثيل، فأضحت دولة منبوذة متهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
وفي كل يوم يتعمق مأزق إسرائيل داخلياً وخارجياً، وتثبت عمليات القتل والتدمير التي تقوم بها صحة الاتهامات الدولية بشأن الجرائم الإسرائيلية.
ولا شك في أن قصف مستشفى ناصر وقتل الصحافيين قد ساهم كثيراً في إظهار الوجه الحقيقي البشع للاحتلال، وربما يعجل في وضع حد لهذه الحرب المجرمة.