تشهد الأسواق العالمية حالة ترقّب استثنائية خلال الأسبوعين القادمين، إذ تتزاحم المؤشرات الاقتصادية الضعيفة من جهة وتوقعات قرارات السياسة النقدية للفيدرالي الأمريكي من جهة أخرى ونحن أمام لحظة فارقة ستترك بصمتها على مسار الدولار والذهب وعوائد السندات وحتى على شهية المخاطرة في الأسواق الناشئة.
أحدث البيانات العمالية في الولايات المتحدة أعطت صورة أوضح عن تراجع الزخم الاقتصادي ، فقد ارتفعت طلبات إعانة البطالة الأسبوعية إلى 237 ألف طلب، وهو أعلى مستوى منذ يونيو، بما يعكس بداية تراكم في الضغوط على سوق العمل ، أما الوظائف الشاغرة فقد تراجعت إلى 7.2 مليون وظيفة في يوليو، لتسجل أدنى مستوى منذ عشرة أشهر، وللمرة الأولى منذ عام 2021 يتجاوز عدد العاطلين عدد الوظائف المتاحة ، في الوقت نفسه أظهر تقرير ADP للقطاع الخاص إضافة 54 ألف وظيفة فقط في أغسطس، وهو أقل بكثير من توقعات 68 ألف، مع ملاحظة لافتة أن الأجور ما زالت تنمو بمعدل 4.4% سنوياً، وهو ما يعقد مهمة الفيدرالي بين دعم النمو وكبح التضخم ؛ هذه الأرقام لا تعني انهيار سوق العمل لكنها تعكس تحولاً تدريجياً من قوة مطلقة إلى تباطؤ ملحوظ، وهو ما يفتح الباب لتغيير في لهجة الفيدرالي.
الأسواق لم تنتظر طويلاً فقد أعادت تسعير توقعاتها سريعاً ؛ عقود الفائدة الآجلة تشير إلى احتمال يقارب 97% أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بخفض الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في اجتماعه يومي 16 و17 سبتمبر، حيث أن منطق الأسواق واضح : ضعف التوظيف وارتفاع البطالة المؤقتة يضغطان في اتجاه التيسير، في حين أن التضخم ما زال مرتفعاً بما يكفي لمنع دورة تخفيضات عميقة ، عليه فإن النتيجة المرجّحة إذن هي خفض محدود ورسالة حذرة تؤكد أنه مجرد تكيّف مع الواقع الجديد وليس بداية مسار طويل.
أي تحرك في الفائدة ينعكس مباشرة على معركة الدولار مقابل الذهب ؛ فإذا خفّض الفيدرالي فعلاً ، فمن المتوقع أن يتراجع مؤشر الدولار بنسبة تتراوح بين 0.75% و1.5% من مستواه الحالي قرب 98 نقطة إلى نطاق 96.7–97.4، إذ تقل جاذبية الأصول الدولارية مع ضعف العوائد الحقيقية ، أما الذهب سيكون المستفيد الأكبر من هذا السيناريو، فالأسعار التي تدور حالياً حول 3550 دولاراً للأونصة مرشحة للصعود بنسبة تتراوح بين 3 و8%، أي إلى نطاق 3650–3830 دولار ، فالمعادلة بسيطة هنا : عوائد حقيقية أدنى ودولار أضعف يعنيان ذهباً أقوى ، في المقابل من المتوقع أن تنخفض عوائد السندات لعشر سنوات من مستوى 4.26% إلى نطاق 3.97–4.17%، وهو ما يفتح المجال لتدفقات جديدة نحو أدوات الدين.
المفاجآت ليست مستحيلة ، فلو جاء تقرير الوظائف الرسمي يوم الجمعة 5 سبتمبر بأرقام أقوى كثيراً من المتوقع فقد تتراجع رهانات الخفض عندها سيرتد الدولار للأعلى ويضغط على الذهب ، أما إذا فاجأ الفيدرالي وامتنع عن الخفض رغم كل المعطيات فسيدخل الأسواق في صدمة حقيقية : الدولار سيرتفع سريعاً، الذهب سيتراجع، وستشهد الأسهم ضغطاً حاداً ، لكن الاحتمال الأكبر بحسب لغة الأرقام هو أن نحصل على خفض حذر بمقدار 25 نقطة أساس مصحوب برسالة مزدوجة، تؤكد أن الفيدرالي لا يزال ملتزماً بمحاربة التضخم لكنه في الوقت ذاته لن يسمح لسوق العمل أن ينهار تحت وطأة التشديد المفرط.
الأسابيع المقبلة ستكون بمثابة لحظة الحقيقة للسياسة النقدية الأمريكية ؛ الدولار يقف على مفترق طرق، إما أن يواصل هيمنته إذا فاجأ الفيدرالي بالتمسك بتشديد السياسة، أو أن يدخل في موجة ضعف جديدة إذا جاء الخفض كما تتوقع الأسواق، في المقابل، الذهب يترقب بلهفة أي إشارة للتيسير ليضيف المزيد إلى مكاسبه القياسية ؛ ما سيحدث بين 5 و17 سبتمبر سيحدد مسار الأسواق حتى نهاية العام، وربما يرسم خريطة جديدة لتوزيع الثقل بين الأصول التقليدية كالعملات والسندات والملاذات البديلة كالذهب والأسواق الناشئة.