نشر بتاريخ: 2025/09/30 ( آخر تحديث: 2025/09/30 الساعة: 17:19 )
بن معمر الحاج عيسى

مرايا الروح.. حين يتشظى الحب في منفى الذاكرة وتظل فلسطين المرآة الأبدية

نشر بتاريخ: 2025/09/30 (آخر تحديث: 2025/09/30 الساعة: 17:19)

الكوفية في المشهد الروائي الفلسطيني، كثير من النصوص تحاول أن تكتب القضية بوصفها صراعًا سياسيًا أو حدثًا تاريخيًا، لكنّ قليلًا منها يغامر بأن يجعل من الكتابة تجربة وجودية خالصة، تتجاوز الحكاية لتصبح مرآة للروح وفضاءً للبوح والاعتراف. رواية مرايا الروح للكاتبة الفلسطينية بشرى أبو شرار تنتمي إلى هذا القليل النادر. ليست رواية تسرد أحداثًا متسلسلة وفق حبكة تقليدية، وليست قصيدة مكتوبة على هيئة فصول، بل هي نصّ هجين، يتغذى من الشعر والسرد معًا، ويكتب الذات الفلسطينية وهي تتفتت في المنافي، وتتشبث بالحب كملاذ أخير، وتستحضر فلسطين كجرح أبدي يسكن اللغة والذاكرة.

منذ العنوان نطلّ على جوهر المشروع: "المرايا". ليست المرآة هنا أداة لتأمل الشكل الخارجي، بل استعارة كبرى لتشظي الذات وانعكاسها في صور متعددة. كل شخصية في النص مرآة لجرح آخر، وكل علاقة حب انعكاس لذاكرة أخرى، وكل ذكرى صورة محطمة في زجاج الغياب. بهذا التوظيف الرمزي، تتشكل الرواية كلوحة فسيفسائية لا تنقاد إلى خط مستقيم للأحداث، بل تتناثر كقطع مرايا مكسورة، على القارئ أن يعيد تركيبها ليبصر الوجه الآخر للحكاية. ولعل هذا التشظي ليس خيارًا تقنيًا بقدر ما هو انعكاس للحالة الوجودية التي تكتبها أبو شرار: الروح الفلسطينية المنفية، التي لا تجد نفسها إلا في صور مبعثرة، ولا تستطيع أن تحكي حكايتها إلا عبر الانكسار.

لغة الرواية تمثل أبرز ملامح فرادتها. فالجملة هنا لا تُكتب كوسيلة لتوصيل حدث، بل ككائن ينبض بالحسّ، مكتظ بالرموز، محمّل بالإيقاعات الداخلية. نقرأ النص لا بحثًا عن "ماذا جرى؟"، بل عن "كيف يُقال؟". الجملة عند أبو شرار مشغولة على نحو شعري يقترب من قصيدة النثر، حيث تتوالى الصور وتتراكم الاستعارات وتتشابك الإيقاعات. هذه اللغة الكثيفة، التي قد يراها بعض القراء مثقلة بالزخرف، هي في جوهرها ضرورة جمالية: إذ لا يمكن التعبير عن وجع المنفى وفداحة الغياب ببرود السرد التقليدي. لا حبكة مستقيمة تكفي لحمل هذا الوجع؛ وحده الشعر قادر على احتواء الفقد، وحده الإيقاع الداخلي يستطيع أن يترجم أنين الذاكرة. ومن هنا، فإن الشاعرية في النص ليست ترفًا أسلوبيًا، بل قدر وجودي للكتابة.

لكن هذه الشاعرية لا تخلو من مخاطر، إذ كثيرًا ما يطغى جمال العبارة على وضوح الحدث، وتتحول الفصول إلى لوحات لغوية أشبه بالمراثي المتكررة. غير أن هذا التكرار ذاته يكشف معنى آخر: فالحب في المنفى لا يعرف الاكتمال، والحنين لا ينتهي عند لحظة محددة، بل يعود ويلتفّ في دوائر، كما لو أن الروح أسيرة دورة لا تنكسر. ولعل هذا ما يمنح النص صدقه: فالتكرار والالتفاف والعودة إلى الصور ذاتها ليست ضعفًا تقنيًا، بل تمثيلٌ لحقيقة الذاكرة الفلسطينية الممزقة.

على مستوى الموضوع، تتقاطع في الرواية ثلاث دوائر كبرى: الذات الفردية الباحثة عن معنى وجودها في المنافي، الحب باعتباره وطنًا بديلاً يحمي الروح من العدم، وفلسطين باعتبارها الجرح الأكبر والمرآة النهائية. هذه الدوائر ليست منفصلة بل تتشابك حدّ التماهي: فالحبيب يُرى كالوطن، والوطن يُستعاد كحبيب غائب، والذات الفردية لا تكتمل إلا بامتلاك الاثنين معًا. ومن هنا نفهم دلالات مقاطع مثل: "أنا وأنت ووطن لن نكف عن عشقه"، إذ تنصهر فيها الذات والآخر وفلسطين في وحدة شعورية واحدة، لا تنفصل فيها الهوية العاطفية عن الهوية الوطنية.

الرواية أيضًا نص اعترافي بامتياز. يكاد القارئ يشعر أنه أمام رسائل حب مطولة أكثر مما هو أمام فصول رواية. الصوت الداخلي يكتب إلى آخر غائب، حوار متواصل مع ظل بعيد، يتأرجح بين الرجاء واليأس. هذا البعد الاعترافي يضفي على النص صدقًا خاصًا، لأنه لا يتزين بالحبكة ولا يخضع لقوانين السوق الأدبي، بل يخرج من حاجة داخلية ملحة للبوح. ولعل هذا ما يجعل القارئ يقرأ الرواية كأنه يقرأ نفسه: يشاركها أسئلتها ومرارتها، ويندمج في خطابها كما لو كان معنيًا به شخصيًا.

أما فلسطين، فحضورها في النص لا يأتي على شكل شعارات ولا بيانات سياسية، بل كنبض داخلي يتسرب في كل التفاصيل: في الأغنية، في البيت الغائب، في صورة الطفولة، في حوار العاشقين. بهذا المعنى، لا تُكتب فلسطين كموضوع خارجي، بل كروح نازفة تسكن اللغة ذاتها. إنها ليست "قضية" تُضاف إلى النص، بل هي النسيج الذي يُحاك منه النص. وهذا ما يمنحها صدقًا خاصًا: لأن حضورها لا يحتاج إلى تسمية أو رفع شعارات، بل يتجلى في التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة.

ولعل فرادة مرايا الروح تكمن في أنها تنقل الرواية الفلسطينية من مستوى المواجهة الخارجية مع الاحتلال إلى مستوى المواجهة الداخلية مع أثر الاحتلال في الروح الفردية. فالنص لا يصف المعارك ولا يروي الأحداث التاريخية، بل يكتب عن ما بعد ذلك: عن الإنسان الفلسطيني الذي يعيش تبعات الفقد، عن الذات التي تحاول أن تتصالح مع حنينها، عن الحب الذي يتفتت تحت وطأة الغياب. بهذا المعنى، تُكمل الرواية المشهد الأدبي الفلسطيني برؤية أكثر حميمية ووجودية: إذ تجعل من الذاكرة والحنين مادة أدبية لا تقل قوة عن تسجيل الوقائع.

البنية الرمزية للنص تقوم أساسًا على المرآة، لكنها تتسع لتشمل رموزًا أخرى: البنفسج مثلًا الذي يتكرر بوصفه استعارة للحب والحضور الدائم، والربيع الذي يطل رغم قسوة الشتاء، والبيت الغائب الذي يتحول إلى رمز للوطن المستحيل. هذه الرموز ليست مجرد زينة شعرية، بل مفاتيح لفهم الحالة النفسية للشخصيات. فعندما تقول البطلة: "كلما بحثت عن حروف اسمك يطل البنفسج"، فإنها لا تتحدث فقط عن الحبيب، بل عن حضورٍ يتجاوز الفرد ليصير استعارة عن فلسطين نفسها، التي تظل تطل رغم الغياب، وتفرض وجودها رغم المنفى.

نقديًا، يمكن القول إن الرواية تمثل نصًا هجينًا يتحدى التصنيف: ليست رواية تقليدية، وليست ديوان شعر، لكنها تقع في منطقة وسيطة تستمد قوتها من هذا التمرد. الهجنة هنا ليست عيبًا، بل انعكاسًا لتمزق الروح التي تكتبها، إذ كيف يمكن لنص أن يكون مستقيمًا وهو يكتب عن ذاكرة مهشمة؟ وكيف يمكن له أن يلتزم بالقوالب وهو يكتب عن وطن مفقود؟ النص إذن يشبه مراياه: بعضها صادق، بعضها مشوه، بعضها مكسور، لكن جميعها يضيء جوانب من الحقيقة.

على مستوى التلقي، تترك مرايا الروح قارئها في مواجهة أسئلة أكثر مما تقدم له إجابات. فهي لا تمنحه قصة مكتملة الأركان، بل تجربة مفتوحة على التأويل. بعد قراءة النص، يظل القارئ متسائلًا: هل يمكن للحب أن يكون وطنًا؟ هل يمكن للوطن أن يتجسد في حبيب؟ هل تستطيع الكتابة أن تضمد جراحًا لا تندمل؟ وهل تعكس المرايا وجوهنا حقًا، أم تكشف أشباحنا الداخلية؟ هذه الأسئلة المعلّقة هي ما يمنح الرواية قيمتها: فهي لا تنغلق على معنى واحد، بل تفتح أفقًا للتفكير والتأمل.

في النهاية، يمكن القول إن بشرى أبو شرار قدّمت عبر مرايا الروح نصًا يكتب فلسطين من الداخل، من قلب الروح الممزقة، لا من سطح الحدث الخارجي. نصّ يتجرأ أن يكون شاعريًا حتى العظم، وأن يجعل من الاعتراف لغة، ومن المرثية جمالًا، ومن الحنين فلسفة وجودية. إنها رواية لا تُقرأ لتُنسى، بل لتنعكس في القارئ نفسه كما تنعكس الوجوه في المرايا. ولعلّ هذا هو جوهرها: أن تتركنا نرى في مراياها وجوهنا نحن، فنكتشف أننا جميعًا نحمل في داخلنا شيئًا من ذلك الجرح الفلسطيني، شيئًا من ذلك الحنين الذي لا يُشفى، شيئًا من تلك الروح التي تكتب بالدم لا بالحبر.