نشر بتاريخ: 2025/07/02 ( آخر تحديث: 2025/07/02 الساعة: 15:17 )

تقرير البنك الدولي: جسر تمويلي نحو "سلطة مجددة"؟

نشر بتاريخ: 2025/07/02 (آخر تحديث: 2025/07/02 الساعة: 15:17)

الكوفية لا يبدو أن توقيت تقرير البنك الدولي الصادر في يونيو 2025 حول الوضع المالي في الأراضي الفلسطينية كان محض صدفة تقنية أو فصلًا محايدًا من التقارير الدورية للمؤسسات المالية الدولية. فالمضمون القاطع، واللغة التحذيرية الصريحة، والحجم غير المسبوق من البيانات المصحوبة بتوصيات تنفيذية، كلّها مؤشرات على أن التقرير تحوّل إلى ما يشبه الوثيقة السياسية، بل وربما التبرير العلني الأكثر احترافية لخطوة مرتقبة تتمثل في إعادة ضخّ مالي دولي موجه، لا لدعم "السلطة" كما هي، بل لترميم شرعيتها أو إعادة تشكيلها ضمن رؤية جديدة يُصطلح على تسميتها في الأروقة بـ"السلطة المجددة".

التقرير وصف الواقع الاقتصادي الفلسطيني بأنه في حالة "انهيار مالي شبه تام"، مشيرًا إلى بلوغ نسبة الدين العام 86.3% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية 2024، مع توقّعات بارتفاعها إلى 94.6% خلال العام الحالي، و96.1% في عام 2026. ما يزيد الأمر خطورة أن 55% من هذا الدين عبارة عن متأخرات غير مدفوعة، بلغت قيمتها نحو 6.4 مليار دولار، تشمل ديونًا جسيمة لصندوق التقاعد، ومستحقات متأخرة للقطاع الخاص، وأجورًا غير مسددة للموظفين العموميين. هذه ليست مؤشرات لعجز نقدي مؤقت، بل لنظام مالي بدأ بفقدان السيطرة على ديناميته، وفقدان الثقة المتبادل بين الحكومة، والمواطن، والقطاع الخاص، والمصارف.

اللافت أن هذا التوصيف المالي جاء مقرونًا بنداء إصلاحات واضحة: ترشيد الإنفاق الجاري، إعادة هيكلة المتأخرات، توسيع القاعدة الضريبية دون خنق النمو، وتحسين الشفافية في إدارة الدين العام. وهي شروط تستنسخ خطاب ما بعد الأزمة في دول منهارة مالياً مثل لبنان أو اليونان، لكنها في الحالة الفلسطينية تتجاوز الاقتصاد لتطال الشرعية السياسية التي باتت محل مسائلة محلية ودولية، بعد سنوات من الجمود والانقسام.

الفرضية المطروحة بقوة، أن التقرير لم يُكتب فقط من أجل التحذير، بل لإطلاق "مشروع إنقاذ مشروط" جديد، يتيح للدول المانحة، وعلى رأسها أوروبا والولايات المتحدة، تبرير التحرك لإعادة تمويل السلطة الفلسطينية تحت عنوان "مواجهة الانهيار"، ولكن وفق مواصفات إدارية جديدة، تضمن الشفافية، وتسمح بالرقابة، وتربط المال بالإصلاح. وهذا ما يفسر ارتفاع وتيرة الحديث الدولي عن ضرورة تشكيل سلطة فلسطينية أكثر تمثيلًا، أو على الأقل أكثر قابلية للتعامل المهني مع متطلبات الدعم الدولي.

ما يعزّز هذا الطرح أن الحديث عن "سلطة جديدة أو متجددة" بات يتكرّر في التصريحات الأوروبية والأمريكية، وأن بعض الأطراف الإقليمية بدأت تتحرك فعليًا لترتيب خطوط التواصل والتمويل عبر صناديق مالية شبه مستقلة، أو ترتيبات رقابية من خلال البنك الدولي أو الأمم المتحدة. وفي خلفية هذا المشهد، تبدو البنية التحتية للمساعدات وكأنها تستعد لاستئناف عملها، ولكن ضمن بنية مؤسسية معدّلة.

كل ذلك يترافق مع أرقام صادمة أخرى وردت في التقرير: انكماش بنسبة 27% في الناتج المحلي الإجمالي، و83% في قطاع غزة وحده، وبطالة تجاوزت 80% في القطاع، و33.5% في الضفة الغربية. أما المساعدات الدولية، التي كانت تشكّل 27% من الناتج المحلي في عام 2008، فقد انخفضت إلى 2% فقط في 2023، قبل أن تعود مؤقتًا إلى 6% في 2024. هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن أزمة مالية، بل عن انهيار تدريجي لمكانة السلطة كفاعل اقتصادي، وعن فقدانها للأدوات المالية التي تمكّنها من إدارة أعباء الحكم.

إن تقرير البنك الدولي، في جوهره، ينقل الرسالة التالية: إذا لم يُضخ تمويل دولي جديد – وفق شروط رقابية ومؤسسية مختلفة – فإن خطر الانهيار الكامل للسلطة بات مسألة وقت، لا أكثر. لكن هذا الضخ لن يكون بلا مقابل، بل سيكون مشروطًا بإعادة تشكيل الأداء السياسي والمالي، وربما القيادي أيضًا، لمنظومة الحكم الفلسطيني. بمعنى آخر، نحن أمام ملامح خطة دولية لإعادة ضبط الوضع المالي الفلسطيني كمدخل لإعادة هيكلة السلطة.

في هذا السياق، يمكن القول إن ما قدّمه البنك الدولي ليس مجرد تحليل اقتصادي، بل وثيقة تبريرية لسياسة دولية آخذة في التشكل، ترى أن دعم السلطة على صورتها القديمة لم يعد مجديًا، وأن البديل هو "دعم مشروط" لسلطة جديدة أكثر استجابة للتحديات الاقتصادية، وأكثر انضباطًا أمام الرقابة المالية الدولية. فهل يشكّل هذا التقرير نقطة التحول الفعلية نحو مرحلة جديدة؟ أم أنه مجرد فصل إضافي في سردية الإنقاذ المؤجل؟