ما العمل مع هذه المقتلة ؟

الكاتب: أكرم عطا الله
ما العمل مع هذه المقتلة ؟
الكوفية غربان الإبادة لم تتوقف عن الطيران في سماء غزة والنعيق فوق رؤوس سكانها. كل يوم أعداد جديدة من عشرات الشهداء ولا تأبه إسرائيل بكل الانفعالات والانتقادات الدولية الآخذة بالتنامي، وما بين نصوص دينية عتيقة تلاحق بها الفلسطينيين، تلك النصوص المسلحة بأقوى وأحدث أنواع السلاح وأدوات الموت. تقف اللحظة الفلسطينية بكل حزنها قائلة: من يوقف حقداً أسود ؟
الإجابة المتكررة الصارخة: لا أحد، لا عربي ولا عجمي ولا من هو مدجج بالتقوى.
ولكن هذا الواقع وتلك القراءة الحزينة التي تجسدت بالدم والدموع على امتداد أكثر من اثنين وعشرين شهراً مرشحة للاستمرار لسنوات حسب ما يعلنه الاحتلال وقراره بالسيطرة أمنياً على غزة عدا المناطق العازلة، وينبغي أن تخضع للتشريح وإعادة القراءة لاتخاذ القرار الذي يضمن وقف النزيف سواء نزيف الدم أو نزيف الروح والنزوح، وحتى لا يجد الشعب الفلسطيني نفسه شريداً وطريداً بعد فوات الأوان كما الكثير من محطات تاريخنا التي لم نستطع فيها اللحاق باللحظة التاريخية وتأخرنا كثيراً، وهذه أحد أبرز مفاتيح السياسة.
بداهة الأشياء في كل حروب التاريخ يتصارع فيها طرفان يدخلان المعركة، كل واحد منهما يعتقد أنه سينتصر على الآخر لا محالة، ولكن ليس دوماً تكون المعارك وفق حسابات المتصارعين أو أحدهما لينتصر واحد على الآخر أو ليسجل أي منهما خسارات كبرى فيضطر لطلب وقف الحرب لوقف النزيف والحفاظ على ما تبقى من جيشه وأصوله من الفناء والإبادة فيضطر للاستسلام وقبول شروط القوي، ليكون اتفاق نهاية الحرب ومفاوضاتها انعكاساً طبيعياً للقوة في الميدان وهذا أيضاً واحد من مفاتيح السياسة.
من لا يحمل تلك المفاتيح وغيرها ويقاتل لأن يتقدم الصفوف لقيادة الشعوب أو يفتح معارك دون التسلح بها هذا يعني أنه يغامر بنفسه وبجيشه وبأصوله الإستراتيجية وبشعبه، وتلك بديهة تجسدت أيضاً على صفحات التاريخ، لكن كل نهايات التاريخ كانت متشابهة في طلب الضعيف لوقف الحرب والاستجابة لمتطلبات ذلك.
فالقوي لا يطلب وقفاً للحرب أبداً، ففي كل يوم يسجل انتصارات ومكاسب وأراضي ونفوذاً وهيبة فلماذا يطلب وقفها إذاً ؟
منذ بداية حرب الإبادة على غزة ونحن - المتابعين للشأن الإسرائيلي - كان لدينا تصور عن التأثيرات النفسية للضربة التي وجهتها حركة حماس لإسرائيل في السابع من أكتوبر، وأن إسرائيل بعقلها المسكون بهاجس التاريخ والمذعور سيذهب أبعد من قدرة الشعب الفلسطيني على احتماله، وأن الأمر سيأخذ جانبين الأول انتقاماً وإبادة والثاني سيأخذ طابعاً استراتيجياً.
فقد سقطت الاعترافات بأن إسرائيل ارتكبت خطأ العام 48 حين لم تصل دباباتها للحدود المصرية دافعة كل الغزيين أمامها، وها قد جاء السابع من أكتوبر اللحظة التي تلتقطها إسرائيل لتصحيح ذلك الخطأ مستندة لرئيس أميركي يفخر بأنه خادم مطيع لإسرائيل ومشاريعها وشديد الإعجاب برئيس وزرائها وأفكاره الفاشية،
ومسلحة بالقوة الكاسحة التي تمكنها من فرض وقائع تنفتح أمامها كل مصانع السلاح الأحدث ومسلّحة برواية الضحية التي تحاول إسرائيل أن تقنع العالم أن عليها أن تنهي هذه الإبادة بما يضمن عدم تكرار السابع من أكتوبر وإزالة حركة حماس، وهو الهدف الذي يجمع عليه العالم الولايات المتحدة وأوروبا التي تقول لا مكان لحماس وأيضاً العرب أو الكثير منهم وأغلبية سكان قطاع غزة.
وما بين الرغبة الإسرائيلية بالقضاء على حماس وبين الرغبة الإسرائيلية بإدامة مبرر المشاريع الإستراتيجية «وجود حركة حماس» ضاعت غزة وضاع ماضيها وحاضرها ومستقبلها وتحولت إلى كومة من الخراب.
منذ بداية هذه الحرب ونحن نكتب بالحد المعقول من الصراحة تلميحاً وأحياناً قليلة تصريحاً لعل حماس تفهم أن عدم فهمها لمفاتيح السياسة ووقائع الميدان هو فعل خارج المنطق وبالغ الفداحة.
ومنذ بداية هذه الحرب ونحن نحاول أن نُفهم حركة حماس أن إسرائيل لن تطلب وقف الحرب وليست معنية بوقف الحرب بل جاءتها تلك فرصة للذهاب أبعد مما تحلم.
ومنذ بداية هذه الحرب ونحن نحاول أن نشرح لحركة حماس أن الميدان هو الذي يحدد نتائج المعارك، وأن المغامرة التي قامت بها كانت خسارة للحركة فلا يجب أن تجر معها خسارات وويلات للشعب الفلسطيني بسبب قلة إدراكها للسياسة ومفاتيحها ولكن بلا جدوى. فما العمل ؟
في واحد من المقالات التي طفح فيها كيل الواقع وفاض فيها نهر الدم كتبت: إذا كنا أمام خيارين إما التضحية بحماس أو التضحية بالشعب الفلسطيني من الطبيعي أن نضحي بحركة هي مجرد كتلة عابرة في تاريخ الشعب الطويل، فما بالنا بحركة عبثت بهذا القدر بمصير شعب لا يحتمل أي هزيمة وإذ بها تستدعي له أم الهزائم. ورغم كل الأخطاء التي ارتكبتها سواء بالإدارة العسكرية بدءا من قرار المغامرة أو الإدارة المدنية الجبهة الداخلية ما زالت تصر على أن تدير غزة وتتفاوض وحدها وتستمر بمعركة خاسرة بكل تكلفتها على الشعب، ولم تطلب في هذه الأزمة من السلطة صاحبة الولاية القانونية أن تدير غزة أو أن تعلن غزة منطقة محتلة، وهكذا تدار الأمور ما يطرح كثيراً من أسئلة الراهن ويفسر كثيراً من عمق المأزق.
لا حل يبدو في الأفق أمام هذا الواقع شديد العناد وشديد الإنكار وشديد القسوة التي يمارسها الاحتلال الذي يتواضع الفاشي أمام ما فعله في غزة ولا حل سوى أن تعترف حماس بالواقع.
فالقوي للمرة العاشرة لا يوقف حرباً، وعلى الضعيف وليس القوي أن يبحث عن الحل، ويمكن أن يكون ذلك فقط في الإطار الوطني بحيث تتنازل فيه حماس للحالة الوطنية وتتراجع للوراء من المشهد، أما دون ذلك فسيستمر الإسرائيلي في الملاحقة، وقد يأخذ الأمر سنوات فهل يحتمل الشعب ذلك ؟
المصدر: صحيفة الأيام