حول سلسلة الاعترافات بدولة فلسطين

عبد المجيد سويلم
حول سلسلة الاعترافات بدولة فلسطين
الكوفية من دون تقليل، ومن دون تهويل، فإن سلسلة الاعترافات من قبل دول وازنة، ومنها أربع من «التحالف» الأنجلوساكسوني بدولة فلسطين هي مسألة على درجة كبيرة من الأهمية، من عدة زوايا، وعلى أكثر من مستوى وصعيد ليس أقلّها أن هذه الاعترافات، قد تكرّست الآن، وستتكرّس بصورة أكبر وأعمق في سياق الصراع كمصدّ قوي في وجه «الإرادة» الأميركية الصهيونية التي تستميت لإعاقة هذا المسار والاتجاه.
نعرف جميعاً ما يشوب هذه الاعترافات، ونعرف أكثر لماذا تمّت هذه الاعترافات الآن، ولأيّ أهداف، وحتى بأي شروط. ونعرف أكثر كيف أن بعض هذه الدول أرادت امتصاص غضب مجتمعاتها، وأرادت أن تعفي نفسها من «واجب» ردع السياسات الأميركية والصهيونية، وهي تحاول بهذه الاعترافات التنصّل من هذه المسؤولية السياسية والأخلاقية والقانونية، ونعرف أن إبقاء هذه الاعترافات في حلقة مفرغة من تحديد ولايتها السياسية، «ولاية الدولة الفلسطينية» على الإقليم الجغرافي لها هي مسألة مقصودة بشديد العناية والاستهداف السياسي، ما سيوفّر لدولة الاحتلال المدعومة من إمبراطورية الهيمنة «الترامبية» هوامش واسعة للمناورة والتهرّب فيما إذا اضطرّت «الولايات المتحدة ودولة الاحتلال» للدخول في تحديد الإطار الجغرافي للولاية السياسية الفلسطينية على هذه الدولة.
نعرف هذا كله، وربما أكثر منه، لكن كل ذلك لا يجوز أن يؤدّي بنا إلى التقليل من شأن وأهمية هذه الاعترافات.
لماذا إذاً لا يجوز لنا التقليل من شأن هذه الاعترافات؟
قلنا إن أوّل أهمية لهذه الاعترافات تكمن في أن تشكل مصدّاً في وجه التحالف الأميركي الصهيوني، طالما أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية ــ على علّاته وشوائبه ــ تحول إلى اتجاه غير قابل للرجوع إلى الوراء.
ولن يتبقّى في العالم كلّه بعد الاعتراف الرسمي الياباني المرتقب على كل حال سوى بعض الجزر الميكروسكوبية، وبعض البلدان التي ابتلاها الله بحكّام مهووسين بالتطرّف ذات الجذور الصهيونية والفاشية.
عندما تتحول الظواهر السياسية والاجتماعية إلى اتجاه ومسار «موضوعي» تصبح بمثابة القانون في الطبيعة، ودعونا هنا نؤكد على أن تعريف القانون في الطبيعة من وجهة نظر علم الفلسفة ليس سوى ظاهرة متكرّرة ثابتة ومستقرّة.. عندما يصبح الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو اتجاه ومسار تصبح «المهمّة» الأميركية الصهيونية ــ موضوعياً ــ هي تحويل هذا الاعتراف إلى حالة خسارة يتعيّن التقليل من آثارها وتبعاتها ليس أكثر، ويصبح «نجاح» التحالف في هذه «المهمّة» مرهوناً باللعب والتلاعب في مساحة الخسارة نفسها.
المسألة الأخرى، وكبيرة الأهمية على هذا الصعيد هي أن «الشوائب»، وربما النواقص التي ما زالت تعتري الاعترافات «الغربية» الجديدة هي من النوع الذي يبقى، وستبقى مرهونة لتطور الأحداث اللاحقة. والمتوقّع هنا أن «المعارضة» الصهيونية الراهنة، والتي تمثل حالة شبه إجماعية لن تبقى كما هي في حال إن سقط التحالف الحاكم في دولة الاحتلال، ولن تبقى الحال كما هي عليه الآن في حال إن سقطت «الترامبية»، أو في حال إن أُجبرت الأخيرة على تراجعات كبيرة نتيجة لتطورات داخلية أو إقليمية، أو حتى نتيجة لتوازنات دولية جديدة.
كما أن مواقف وسياسات الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية في الموجة الأخيرة من هذه الاعترافات ستضطرّ إلى تغيير مواقفها عند درجة محدّدة من تطور مجريات ضغوط مجتمعاتها عليها، وهو الأمر الذي بات بحكم المؤكّد في ضوء معظم القراءات السياسية لمسار تطور هذه المسألة بالذات.
هنا وعند هذه النقطة لا بدّ من أن نمعن النظر ونتأمّل كثيراً في الظاهرة، أو الظواهر الجديدة على هذا الصعيد.
طالما أن نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية» قد وصل في قرارة نفسه الى أن كيانه المحتل قد عُزل دولياً بصورة لم تعد خافية عليه، ولا على أحد من أعضاء حكومته الفاشية، ولا حتى على «زميله» في حرب الإبادة الجماعية والتجويعية كما عبّر عنها ترامب عندما انبرى لاستخدام «حق النقض» لمجرّد قرار بوقف إطلاق النار، وليس بإنهاء الحرب، وطالما أن العالم كله شاهد، وعلى الهواء مباشرة كيف وجه نتنياهو خطابه في الأمم المتحدة إلى قاعة من الكراسي الفارغة.. طالما أن الأمور قد وصلت إلى ما وصلت إليه، والحبل طبعاً على الجرّار، فإن هذا «الثنائي»، والذي بات حالة فريدة لـ»توأم غريب وعجيب» لم يعد أمامه، سوى أن يذهب إلى المزيد من التصعيد والعجرفة، علّ ذلك يؤدّي إلى مخارج تحفظ له ماء الوجه بقدر الإمكان، وتخلّص هذا التوأم من مأزق العزلة والاختناق قبل فوات الأوان.
أقصد أن خطاب العجرفة والتصعيد هو خطاب فارغ، لأن الاستمرار به لا يؤدّي بالتوأم إلى أيّ مكان سوى إلى المزيد من العزلة، أو المقامرة بحروب كبيرة وجديدة ليس لها أي أفق حقيقي، مهما كانت درجة القوة المنوي استخدامها. ولن يكون عليه موقف المجتمعات المدنية في «الغرب» سوى أن يصعّد هو من جانبه من درجة الالتحام بفلسطين، وسوى أن يعمّق أكثر فأكثر من اشكال تصدّيه للاحتلال وسياساته، ومن أشكال دعمه ومساندته من قبل أميركا، ومن قبل الدول النيوليبرالية في أوروبا الغربية، وفي العالم كلّه. هنا الورطة الإسرائيلية تصبح في أوجها.
فمن ناحية، نحن نعرف جميعاً أن الصناعة الإسرائيلية في وضع صعب، والصادرات الإسرائيلية تحوم حولها شكوك من حيث قدرتها على «الصمود»، والاتحاد الأوروبي هو الشريك الأوّل للدولة العبرية، ووقف التعاون مع دول الاتحاد، فرادى وجماعات سيكون بمثابة الضربة القاضية للاقتصاد الإسرائيلي، ووقف تزويد دولة الاحتلال بالسلاح الأوروبي سيكون له وقع الصدمة على الآلة العسكرية، ونزيف الموارد البشرية المرتبطة بالعلاقات الأوروبية الإسرائيلية المباشرة، سيكون أعلى وأكبر من تحمّل الاقتصاد الإسرائيلي، وهو الأمر الذي سيحوّل هذا النزيف إلى هجرات متتالية ممّن تبقّى حتى الآن في قطاعات معيّنة تعتمد بصورة مباشرة، أو غير مباشرة على الهوامش المالية والاقتصادية لهذه العلاقات.
وليس مستبعداً، ولا يجوز لنا أن نستبعد بأن يتحوّل الالتحام ما بين الحركة العمّالية والنقابية في البلدان «الغربية»، إضافةً إلى الحركة الشعبية العارمة التي تجمع ما هو أوسع وأكبر من الحركة السياسية، وما هو أكبر من الحركة العمّالية والنقابية.. لا يجوز لنا أن نستبعد أن تتحوّل هذه العملية إلى حركة مقاطعة لا تقلّ في زخمها وتأثيرها عن تلك المقاطعة التي أطاحت بالنظام العنصري في جنوب إفريقيا، إن لم نقل أكبر وأعمق وأشمل. هنا نحن أمام ظواهر جديدة مطلوب دراستها، والتمعّن بها واستقراء مآلاتها المستقبلية.
نتنياهو يرمي بكل «الإنجازات» الإسرائيلية في «ثقب أسود»، وترامب يدرك ذلك، وهو ما زال يأمل بأن تتم في القريب العاجل عملية ما من المراوغة التي تخرجه من هذا المأزق، وهو كما يبدو ما زال يراهن على أن يكون العرب هم ضالّته الوحيدة.
في المقال القادم سنحاول أن نستقرئ محاولات ترامب الجديدة التي كان اللقاء ببعض قادة الدول العربية والإسلامية أوّل جسّ نبض لها. ولنتذكّر أن ترامب يتحدث عن مرحلة ما بعد الحرب، وليس حول وقفها أو إنهائها.
لا أعرف فيما إذا كان العرب يدركون بأن ما يتحدث عنه ترامب هو إجازة رسمية جديدة للإبادة بأقسى الأشكال وأكثرها همجية ووحشية، وبالتالي فإن على العرب أن يدركوا بأن ترامب يناور لإدخالهم في زاوية خطرة وحرجة، وإظهارهم وكأنهم على توافق مع خطة الإبادة، وهم يتناقشون مع الإدارة الأميركية حول مرحلة ما بعد تحقيق إستراتيجية الإبادة لكامل أهدافها، وهذا نقوله فقط من باب التحذير حتى لا يقعوا فريسة للألاعيب الأميركية، والتي هي ألاعيب متفق عليها بين الدولة العبرية والإدارة الأميركية الأكثر صهيونية في تاريخ أميركا منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، إذا لم تتضمن الخطة الأميركية الجديدة الوقف الفوري للحرب، فهذا يعني أن على العرب الانسحاب فوراً.