نشر بتاريخ: 2025/09/25 ( آخر تحديث: 2025/09/25 الساعة: 12:54 )
طلال عوكل

«تسونامي» الاعتراف، و»تسونامي» الرأي العام

نشر بتاريخ: 2025/09/25 (آخر تحديث: 2025/09/25 الساعة: 12:54)

جنون شامل يجتاح دولة الاحتلال كلّها، بما في ذلك الحكومة الفاشية و»المعارضة»، وإرباك شديد، إزاء «التسونامي» الذي تشهده ساحة الأمم المتحدة، لم تشهد مثله منذ عقود.

11 دولة تعترف بدولة فلسطين، ما يعني أن أكثر من ثلثي دول العالم، تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، في تقرير مصيره وإقامة دولته على حدود الرابع من حزيران 1967. حتى ألمانيا التي تربط الاعتراف بالدولة الفلسطينية تعلن رفضها لأي تغيير في هذه الحدود.

ما جرى في ساحة الأمم المتحدة في الذكرى الـ80 لتأسيسها، ليس مجرد مهرجان خطابي احتفالي، لا يتجاوز كونه حبراً على ورق ما تقول الولايات المتحدة الأميركية والدولة العبرية، بل إنه تحول سياسي دبلوماسي حقوقي وقانوني، يعيد بقوة تأكيد حقوق الفلسطينيين على جزء من أرضهم.

معلوم أن ثمة مسافة بين هذا «التسونامي» الكاسح، وبين إمكانية تجسيد الدولة على الأرض، وأن ثمة صراعات، وحروباً، وتطورات مهمة على مختلف الأصعدة، حتى يتحقق حلم الدولة الفلسطينية.

في المقام الأوّل، يعني هذا «التسونامي»، أن العالم كله أدرك على نحو ملموس، أن المنطقة من غير الممكن بل من المستحيل أن تنعم بالسلام والأمن طالما بقي الجرح الفلسطيني مفتوحاً، وطالما أن الشعب الفلسطيني لم يحظ بحقوق غير قابلة للتصرّف، كما تقرّ بذلك الأمم المتحدة.

الدول الغربية التي أنشأت الكيان المحتل منذ «وعد بلفور»، وما بعد ذلك وحتى وقت قريب جداً، وهي لا تزال تراه جزءاً مهماً من إستراتيجياتها وأولوياتها الاستعمارية، أخذت تدرك حقيقة أن حماية هذا الكيان وضمان وجوده واستمرار وظيفته، لا يمكن أن يتحقق من دون «حلّ الدولتين».

لا دولة الاحتلال، ولا أميركا ولا أي طرف في العالم يقدم بديلاً ممكناً ومقبولاً لـ»حلّ الدولتين». دولة الاحتلال ترفض هذا الحل وترفض حل الدولة الديمقراطية الواحدة لشعبين، وهي تعتمد سياسة إلغاء الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه، وفي أحسن الأحوال تحويله إلى مجرد عبيد خاضعين، لا كرامة ولا هوية لهم ولا كيان.

الموجة الأخيرة من الاعترافات الدولية تنطوي على أهمية خاصة، حين تشمل بريطانيا صاحبة «وعد بلفور» والمساهم الأكبر في إقامة الكيان المحتل، ها هي كأنها تقدم اعتذاراً للشعب الفلسطيني عمّا تسبّبت به من كارثة تاريخية.

وحين تشمل الاعترافات فرنسا، التي شاركت بريطانيا، اتفاقية «سايكس ـ بيكو» عام 1916، وأنشأت المشروع النووي الإسرائيلي، فإن مثل هذا الاعتراف ينطوي على أهمية بالغة.

الدول الأساسية التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، خصوصاً الأوروبية، كانت من أوائل الدول التي وقفت بالباع والذرائع إلى جانب دولة الاحتلال، إثر «طوفان الأقصى»، واستمرت تقدم لها كل أنواع الدعم وبعضها لا يزال يقدم الدعم، ها هي تتحول نحو الابتعاد عن سياساتها السابقة.

غير أن هذه التحولات المهمة، ما كان لها أن تتمّ لولا التغييرات الواسعة التي يشهدها الرأي العام العالمي، وفي تلك الدول على نحو الخصوص.

إذا كانت الدول الأوروبية التي اعترفت بدولة فلسطين قد استدركت الأمر، قبل أن ينفجر الرأي العام فيها في وجه أنظمتها السياسية، فإن الإدارة الأميركية لا تزال تتجاهل التحولات الواسعة والعميقة في الرأي العام لديها في غير صالح دولة الاحتلال، وفي غير صالح السياسة الأميركية السائدة.

بعض الدول الأوروبية، مثل إيطاليا وألمانيا، لا تزال حكوماتها تتجاهل التحولات في الرأي العام بداخلها، ولا تزال تتخذ مواقف ضبابية وحذرة، ولكنها مسألة وقت حتى تخضع لمطالبات الرأي العام الذي انفجر على نحو غير مسبوق في إيطاليا خصوصاً.

على أن المسألة لا تتوقف عند حدود الاعتراف، وكفّ تلك الدول شرّ العواقب، فالاعتراف يلزمها بأن تتخذ سياساتها سياقاً مسؤولاً لتنفيذ هذا الاعتراف كاستحقاق على أرض الواقع، ما سيضعها يوماً بعد آخر، في مواجهة كل من يحاول تعطيل هذا المسار.

الرأي العام الذي أرغم الدول على الاعتراف بدولة فلسطين لن يتوقف عن التأثير، ومثلما أنجز خطوة الاعترافات، فإنه سيضع حكوماته أمام مسؤولية العمل، عَبر اتخاذ ما يلزم من إجراءات، عقابية ضد الدولة العبرية التي تستهتر بهذه التحولات، وتوجه الإهانات لحلفائها.

بقدر عال من الوقاحة، يلقي نتنياهو ووزراء حكومته الفاشية الاتهامات لزعماء الدول التي اعترفت بفلسطين، فهم إما ضعفاء، وإما يخونون حلفاءهم، وإما يحرّضون ضد السامية.

في خطوةٍ أولى، في إطار الردّ على تلك الموجة من الاعترافات بالدولة الفلسطينية، يعلن الكيان المحتل إغلاق معبر الكرامة، المنفذ الوحيد للضفة الغربية على العالم الخارجي، ما يوحي بأن الضفة تتعرض لحصار خانق، يضاف إلى الحرب الإبادية والمجازر التي تشنها دولة الاحتلال على الضفة بالاستيطان، والقتل ومصادرة الأراضي، وإضعاف السلطة الوطنية، والتصعيد ضد المسجد الأقصى، والأماكن المقدسة، وتسليح ميليشيات المستوطنين، ودعم وحماية إرهابهم.

ما تبقّى من الردّ، يقول نتنياهو: إنه سيتخذه بعد عودته من أميركا، وبعد لقائه مع ترامب، للتصرّف وفق الحدود التي يتم الاتفاق عليها، وما تسمح له أميركا التحرك في إطارها.

غير أن المسألة تذهب إلى ما هو أبعد بكثير من موضوع الاعترافات بالدولة الفلسطينية، ذلك أن نتنياهو لا يزال يسير في خطّ الاستمرار في الحروب البربرية، وتفجير الشرق الأوسط، سعياً وراء وهم إعادة رسم خارطته.

يقول نتنياهو: «أريد أن أكرّر أننا مصمّمون على تحقيق كلّ أهداف الحرب، ليس فقط في غزّة، وليس فقط القضاء على حركة حماس وتحرير الرهائن بل، أيضاً، في جبهات أخرى وفتح فرص للأمن والانتصار وحتى السلام». ويضيف: «نحن داخل معركة وعلينا أن ندمّر «المحور الإيراني»، وهذا بوسعنا، وهذا ما ينتظرنا في العام المقبل الذي قد يكون عاماً تاريخياً لأمن إسرائيل».

بوضوح كهذا، وباستعلاء، يصرّ نتنياهو على متابعة حروبه الهمجية لعام قادم آخر، الأمر الذي يكفل بأن يفجّر الرأي العام العالمي على نحوٍ لم تعرفه ولم تتوقّعه دولة الاحتلال في أفضل كوابيس زعمائها المتطرفين.