إسرائيل بين تناقض السياسات ووضوح الاستراتيجية في سورية

سنية الحسيني
إسرائيل بين تناقض السياسات ووضوح الاستراتيجية في سورية
لم تكن هجمات ٧ أكتوبر مقدمة لاستراتيجيات عسكرية وأمنية جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة ــ في قطاع غزة والضفة الغربية فقط، بل كانت مدخلاً لاستراتيجيات جديدة معلنة في سورية أيضاً. وقد تعكس الأحداث الأخيرة في السويداء جانباً من تلك الاستراتيجية الإسرائيلية المعلنة في سورية. وقد يكون أكثر ما يشير لغرابة الأحداث في السويداء تناقض المواقف الإسرائيلية، التي تشن غارات على قوات النظام التي تحاول فرض الأمن في السويداء من جهة، بينما تتبنى محادثات مباشرة وغير مباشرة مع ذلك النظام السوري الجديد، في سبيل تثبيت اتفاقيات هدنة، أو تطبيع كما يتطلع الرئيس الأميركي.
في فلسطين، كشف الاحتلال صراحة عن استراتيجيته باتجاه حسم الصراع مع الفلسطينيين في غزة والضفة، بعد السابع من أكتوبر. فمن خلال الحرب الدموية المدمرة في غزة، التي تهدف لجعل مستقبل حياة الغزيين فيها معقداً، ومن خلال تضييق الخناق في الضفة الغربية، بفرض الحواجز والتهجير الداخلي والهدم والمصادرة وتصعيد اعتداءات المستوطنين، تزداد تعقيدات الحياة، في تدشين بيئة طاردة للفلسطينيين من أرضهم. تأتي تلك السياسات الإسرائيلية المعلنة، اليوم، في ظل مجتمع إسرائيلي يميني في غالبيته، وتوجه بترسيخ يمينية مفاصل الدولة العميقة، وتحسين فرص وصول من هم أشد يمينية لسدة الحكم، لضمان تنفيذ السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في المستقبل. لم تكن إستراتيجية الاحتلال بإدارة الصراع بعيدة عن النتائج التي باتت تتطلع إليها بحسمه، اليوم، بل كانت مرحلة ضرورية لازمة، هدفت خلالها الحكومات الإسرائيلية إلى تغيير الوضع الجغرافي على الأرض تدريجياً، تمهيداً لحسم ديمغرافي.
في سورية، وبعد أن بقيت التفاهمات الأمنية لعقود بين النظام السوري والحكومات الإسرائيلية المختلفة، التزم خلالها النظام السوري بقواعد هدنة لم تتزحزح، رغم خروقات إسرائيل المتكررة بهجمات جوية بقيت محدودة، ودون كسر لقواعد الاشتباك على الحدود، في ظل اتفاقية الهدنة لعام ١٩٧٤، والتي حددت المناطق المنزوعة السلاح، في ظل وجود قوة أممية تدعم ذلك. بعد سقوط نظام بشار الأسد نهاية العام الماضي، غيرت إسرائيل من سياستها تجاه سورية، وتبنت استراتيجية تختلف تماماً عن تلك التي تبنتها في الماضي. فقد ألغت اتفاق الهدنة، واحتلت المناطق المنزوعة السلاح، داخل الأراضي السورية، وتمددت في أنحاء واسعة في البلاد. كما أنها اعتبرت النظام السوري الجديد «إرهابياً»، ينحدر من أصول دينية أصولية، يصعب الوثوق به، خوفاً من تكرار هجمات السابع من أكتوبر. وقد يكون من المفيد تتبع التصريحات الرسمية في ذات الخصوص، لفهم إستراتيجية إسرائيل في سورية، اليوم.
بينما وصف نتنياهو نظام أحمد الشرع الجديد، بعد سقوط نظام الأسد، بأنه «نظام إسلامي متطرف» يشكل تهديداً لدولة إسرائيل، وقامت القوات الجوية الإسرائيلية بتدمير كبير في البنية العسكرية للدولة السورية، واعتبر جدعون ساعر وزير الخارجية الإسرائيلي أن إسرائيل تتطلع إلى تطبيع علاقاتها مع سورية ولبنان، لما يشكل ذلك من مصلحة لبلاده، لكنه شدد على أن ذلك التطبيع يأتي في ظل «الحفاظ على مصالح إسرائيل الأساسية والأمنية». ويأتي تصريح نتنياهو بأنه يتطلع لـ»نزع السلاح الكامل من جنوب سورية»، لتكتمل عناصر المعادلة الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه سورية، بما يفسر سياساتها المتناقضة فيها. ففي سبيل الحفاظ على واقع أمني وعسكري يضمن تدخلا إسرائيليا قويا في سورية ويحفظ وجودها ومكانتها، تحتاج إسرائيل لوجود نظام ضعيف فيها، لا يقوى على مواجهتها، ويكون من مصلحته تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتجنب عدائها. واعتبرت الإدارة الأميركية بالفعل أن «من مصلحة سورية أن تميل نحو إسرائيل».
وعليه يمكن فهم سياسة إسرائيل، التي تواصل تمددها وسيطرتها الأمنية والعسكرية في سورية، خصوصاً في جنوبها، وهو ما يتطلب المحافظة على نظام ضعيف في سورية، يسهل الطعن به وتقويض مصداقيته. وتستهدف إسرائيل منذ سقوط الأسد البنية التحتية للقدرات الهجومية العسكرية السورية، كما تتعمد شن غارات على رموز مهمة للنظام، لكشف ضعفه، ومواصلة تهديده. كما تنسج إسرائيل علاقات وولاءات مختلفة مع أطياف وأقليات مختلفة في سورية، خصوصا في جنوبها، كما يحدث حالياً في السويداء، ما يضعف هيبة النظام سياسياً أيضاً.
في السويداء، تتعمد إسرائيل باستغلال أزمة الدروز، الذين يشكلون الأغلبية فيها، لترسخ مفهوم ضعف النظام. فرغم أن الخلاف بين الدروز والنظام ليس جديداً، كما الهجمات المتبادلة من قبل البدو أو جماعات متطرفة مع الدروز، إلا أنها تفاقمت بعد وصول الشرع إلى الحكم. ووصل الأمر إلى اعتبار إسرائيل السويداء تحت حمايتها الأمنية، ما يفسر استهداف إسرائيل لقوات النظام المتوجهة للسويداء أو المتواجدة فيها خلال الأيام الماضية، ومحاولتها تقويض أي تفاهمات بين النظام والدروز. تريد إسرائيل أن تستغل علاقتها التاريخية بالدروز، خصوصاً هؤلاء المتواجدين في مرتفعات الجولان، والذين يمتلكون علاقات عائلية ممتدة في السويداء، وعدم عدائية العلاقة مع دروز سورية، على مدار العقود السابقة، لترسيخ علاقة معهم، تضمن تواجدا أمنيا وسياسيا، بموافقة الدروز أنفسهم، رغم أن هناك من يعترض على تلك العلاقة من دروز السويداء.
ولم يخرج الطلب الإسرائيلي من ترامب بعدم رفع العقوبات عن سورية، إلا لضمان بقاء النظام السوري الجديد ضعيفاً. كما تسعى إسرائيل للاحتفاظ بالوجود الأميركي في شمال سورية، لتقويض فرص تعزيز النفوذ السوري فيها، خصوصاً في ظل تحسن مكانة ونفوذ تركيا في تلك المناطق، التي تدعم نظام الشرع. إن تلك التطورات تفسر القلق الإسرائيلي من النفوذ التركي في شمال سورية، والقلق التركي من النفوذ الإسرائيلي المتصاعد في جنوبها. تأتي جميع تلك السياسات الإسرائيلية تجاه نظام الشرع على الرغم من تأكيده على عدم نيته مهاجمة إسرائيل، أو السماح بمهاجمتها من الأراضي السورية، أو جعل بلاده ممراً مفتوحاً للبنان، ما يفسر موقف الولايات المتحدة الساعي لتطبيع العلاقات بين سورية وإسرائيل. وأجرت إسرائيل محادثات مباشرة وغير مباشرة مع الحكومة السورية الجديدة، إلا أن ذلك لن يخرج عن الحد الذي ستسمح به إسرائيل، بما يضمن لها تحقيق مصالحها الأمنية والسياسية.