نشر بتاريخ: 2025/08/07 ( آخر تحديث: 2025/08/07 الساعة: 16:33 )
سنية الحسيني

غزة تعيد رسم التوازنات في أوروبا، لكن مَن يوقف الحرب عليها؟

نشر بتاريخ: 2025/08/07 (آخر تحديث: 2025/08/07 الساعة: 16:33)

تشهد دول القارة الأوروبية تحولات خطيرة باتجاه الإقرار بالحق الفلسطيني، بعد عقود من إنكاره لصالح إسرائيل والتزاماً بتوجهات الحليف الأميركي، وتاريخها الاستعماري. فحرب غزة بويلاتها حركت الشارع الغربي لصالح إنصاف الفلسطينيين، وهو بدوره ضغط على صناع القرار في دول القارة العجوز، للمطالبة بوقف الحرب والاعتراف بالدولة الفلسطينية. ورغم أن تلك التطورات لا تزال محدودة، ومحصورة ضمن حراك سياسي فقط، إلا أنه من المأمول أن يتجاوز الدور الأوروبي المستوى السياسي إلى المستوى العقابي الاقتصادي والعسكري لردع إسرائيل، وتحقيقاً للعدالة وحقوق الإنسان، وهي الشعارات التي طالما تبنتها دول القارة ودافعت عنها. قد يكون هناك عوامل أخرى تساعد على حدوث تحولات لصالح الفلسطينيين في القارة العجوز، على رأسها توتر العلاقة مع الولايات المتحدة، وتصاعد ضغط الأحزاب اليسارية، في ظل حراك شعبي واسع دعماً لفلسطين، وهي ذات العوامل التي حركت دول القارة اللاتينية قبل أكثر من عقد، لصالح الاعتراف بفلسطين والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، إلا أن الدور الأوروبي، اليوم، قد يحرز نتائج عملية أكبر، بسبب طبيعة الحرب في غزة مقارنة بالحروب السابقة عليها، وبسبب طبيعة العلاقات العميقة الأوروبية الإسرائيلية.

اعتبرت الدول الغربية، والتي يتمركز جلها في القارة العجوز، الأقل تأييداً للحق الفلسطيني في تقرير المصير، والتحرر من الاحتلال، وتجسد ذلك في حجب تلك الدول الاعتراف بفلسطين، طوال العقود الماضية. فبينما يعترف أكثر من ٩٠% من دول القارتين الآسيوية واللاتينية بفلسطين، وأكثر من ٩٦% من دول القارة السمراء، لم يتعدَ من اعترف بفلسطين من قبل دول الاتحاد الأوروبي قبل الحرب الأخيرة على غزة سبع دول، من بين دول الاتحاد الـ ٢٧، منها ست دول اعترفت بفلسطين في العام ١٩٨٨، في إطار اعتراف دول الكتلة الشرقية التابعة للاتحاد السوفيتي بفلسطين خلال الحرب الباردة، بينما اعترفت السويد كأول دولة أوروبية غربية بفلسطين في العام ٢٠١٤. ويبقى الاعتراف الأوروبي والغربي محدودا بفلسطين، على المستوى الأوروبي الأوسع، والذي يضمن أكثر من ٤٤ دولة. وارتبطت معظم الدول الغربية، ودول الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص بعلاقة شراكة وتحالف وطيدة مع إسرائيل على جميع المستويات، السياسية والاقتصادية، والعسكرية، والعلمية، والتكنولوجية، فتعتبر إسرائيل الحليف الأقرب للاتحاد من خارجه.

بعد الحرب على غزة، ومواصلة إسرائيل لجرائمها، دون رادع أو محاسب، وانكشاف مآسيها في الشارع الغربي، تحرك الرأي العام في الشارع لوقف الحرب، وبات هناك انفتاح على واقع القضية الفلسطينية، الذي حجب رسمياً عن الرأي العام الغربي لعقود لصالح تبني الرواية الإسرائيلية. لقد كشفت استطلاعات الرأي في الدول المركزية في القارة العجوز كفرنسا وبريطانيا وغيرها تأييداً متصاعداً للفلسطينيين، خصوصاً في أوساط الشباب، خلال العامين الماضيين. وانعكس ذلك بوضوح في تأييد تلك الشرائح الشابة للأحزاب اليسارية أو يسار الوسط، والتي تعاظم ثقلها في توازنات الحكم وصنع القرار. إن هذه التحولات انعكست في قرارات حكومات مركزية كفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وحتى ألمانيا وغيرها، التي بات من الصعب عليها إنكار واقع الاحتلال في فلسطين والحرب والاستيطان والاعتراف بحقوق الفلسطينيين. اعترفت من دول الاتحاد بفلسطين كل من إيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا، والنرويج من خارجه، ووعدت فرنسا وبريطانيا ومالطا، بالاعتراف بفلسطين في الشهر المقبل، وهناك دول مثل البرتغال ولكسمبورغ وبلجيكا وفنلندا وليتوانيا وألمانيا يمكن أن تعترف بفلسطين، في ظل تفاعل ذات العوامل فيها، وهو إن تحقق يعني أن حوالى ٦٠% من دول الاتحاد الأوروبي ستعترف بفلسطين، والذي سيفتح الطريق أمام اعتراف باقي دول العالم بفلسطين.

قبل أكثر من عقد، وتحديداً بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، في العام ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، اعترف عدد كبير من دول القارة اللاتينية بفلسطين. تتقاطع العوامل بين الحدثين، فالحرب حركت الشعوب، سواء في أوروبا في الحرب الحالية على غزة، أو في القارة اللاتينية في حرب العام ٢٠٠٩، لحماية الفلسطينيين وإنصافهم، وصعود أحزاب يسارية، تدعم حقوق الشعوب المضطهدة ساهم في تبني الحكومات مواقف رسمية تعكس رغبة الشارع. فشهدت الدول اللاتينية في تلك الحقبة ما عرف بالمد الوردي، عندما حكمت أحزاب يسارية وقومية في تلك البلدان، مثل فنزويلا والبرازيل وبوليفيا والإكوادور والأرجنتين، وهو ما ساعد لالتحام الموقف الشعبي والرسمي لصالح الفلسطينيين والاعتراف بحقهم. واليوم، يتحكم الشارع الغربي، في ظل أنظمة تتأثر بنبض الشارع، وهو ما يفسر تصاعد تأثير الأحزاب اليسارية ويسار الوسط في صنع القرار الخارجي، انطلاقا من نبض الشارع.

هناك عامل ثالث يجمع بين الحالتين اللاتينية والغربية، فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية وحرب غزة. في الحالة اللاتينية، تمردت الأحزاب اليسارية في الحكم على التبعية الأميركية، وباتت حكومات الدول اللاتينية تتخذ قراراتها بمعزل عن واشنطن، واقتربت في علاقاتها أكثر نحو روسيا، في ظل اضطرابات في العلاقات السياسية والاقتصادية، وتراجع النفوذ الأميركي في القارة. واليوم، تواجه دول القارة الأوروبية حربا اقتصادية من قبل الولايات المتحدة، والتي تعد أقرب حلفائها، بعد أن فرضت أميركا تعريفات جمركية على دول الاتحاد وصلت إلى ٣٠%، وكانت قبل ذلك تتراوح بين ١ و١.٥% فقط. وفي التفاهمات الأخيرة وافقت الولايات المتحدة على تخفيضها إلى ١٥%، وهو ما لم ترضَ عنه معظم دول الاتحاد، ويعرضها لخسارة كبيرة. يزداد الأمر تعقيداً على دول الاتحاد عندما يقترن ذلك بنتائج الحرب الروسية الأوكرانية، التي أججتها الولايات المتحدة، وأقحمت أوروبا فيها، رغماً عنها. اليوم، تعتمد أوروبا على الغاز الأميركي الأكثر تكلفة والأقل جودة، دون وجود بدائل أخرى. كما ألزمت الولايات المتحدة دول «الناتو» بتحمل التكلفة الدفاعية، بعد أن كان جلها يأت من الولايات المتحدة، وتجبر دول «الناتو»، اليوم، على رفع ميزانية الدفاع إلى ٥% من ميزانياتها، لتتناسب مع ما هو مطلوب منها في إطار المساهمة المالية في ميزانية الحلف. كما تلزم الولايات المتحدة دول «الناتو» بشراء الأسلحة منها، ضمن معايير معينة، موجودة فقط في إطار المنظومة الصناعية العسكرية الأميركية. كما تحمل الولايات المتحدة تلك الدول مسؤولية تسليح أوكرانيا، بعد أن انسحبت من التزاماتها. وفرضت الولايات المتحدة أيضا على دول الاتحاد الاستثمار في الولايات المتحدة بقيمة ٦٠٠ مليار دولار إضافية، في ظل كل تلك الأعباء المالية على الأوروبيين.

ألا يشكل ذلك إعلان حرب من قبل الولايات المتحدة على حلفائها في القارة العجوز، بعد أن أشعلت حربا في المنطقة، تستنزف الكثير من مقدرات القارة، وبثت الفتنة والعداء مع حليف كان مهماً لدول أوروبا. وبقيت الولايات المتحدة المنتصر الوحيد في جميع تلك الأحداث، بينما تضعف سياساتها الآخر، سواء كان حليفاً أم عدواً. ألا يدق ذلك جرس إنذار لأوروبا، التي تحتاج للتحرر خصوصاً بعد أن فرضت عليها الولايات المتحدة تبعية في مجال الطاقة والتسليح. لا يمكن الاستهانة بقدرات أوروبا على الصعيد الصناعي والاقتصادي والتجاري، ولا بمكانتها ودورها السياسي والدبلوماسي والقانوني والأخلاقي العالمي. وبعد أن ثبت للأوروبيين أن الاعتماد على الأيديولوجيا في رسم التحالفات، غير مضمون، اليوم، في عالم تحكمه المصالح فقط، كما أعلنتها الولايات المتحدة صريحة مدوية «أميركا أولاً»، على أوروبا أن تتحمل مسؤولياتها، والمسؤولية الأخلاقية، اليوم، هي إنصاف الفلسطينيين، والوقوف في وجه من يتحدى العدالة والقانون الدولي.