حروب غزة، أوجه عديدة للمأساة

عبد الغني سلامة
حروب غزة، أوجه عديدة للمأساة
يظن الكثيرون منا، خاصة من هم خارج غزة، أن معاناة أهل غزة هي القصف الإسرائيلي، وكل ما يرتكبه الاحتلال من جرائم مروّعة بحق المدنيين، من تجويع وحصار وإجبار على النزوح وهدم للبيوت وتدمير للمنشآت.. إلخ. هذا الجزء البارز من المعاناة، وهناك أجزاء وصور أُخرى عديدة من المعاناة لا تقل عنها خطورة، بل وتزيدها بؤساً وشقاء.
تبدأ معاناة المواطن الغزي منذ لحظة استيقاظه، حين تخترق الشمس اللاهبة قماش خيمته وتجبره على النهوض، لتأتي مباشرة أسراب الذباب والبعوض، وتنبعث روائح العفونة وأكوام النفايات المحيطة به أينما ولى وجهه. تزداد معاناته مع بدء يومياته التي لا تشبه يوميات البشر في العصر الحالي، عليه أن يتدبر أمر المرحاض، وتوفير مياه وصابون، ثم البحث عن كومة حطب لإيقاد نار، ثم تقسيم المهام بين أفراد العائلة، وتوزيع الأولاد على الطوابير: طابور للتكية، وطابور لشحن الجوّال، وآخر لملء غالون مياه، وآخر للمخاطرة بحياته بحثاً عن كرتونة مساعدات، أو كيس طحين.
معاناة وقهر إذا أراد استلام راتبه الشهري (إذا كان محظوظاً وما زال يشتغل) أو إذا جاءته حوالة مالية من قريب أو متبرع، عليه أن يتخلى عن نصفها للسماسرة والصرافين، أو يدفع «خاوة» لمسلح أو ملثم يقف بجانب الصراف الآلي.
معاناة الاستيقاظ الساعة الثانية صباحاً، والتوجه إلى مناطق توزيع المساعدات، عليه أن يزحف على بطنه لساعات بين الانبطاح ورفع رأسه والتقدم مترين بين فينة وأخرى مثل لعبة الحبّار، وأي خطأ سيلاقي رصاصة قناص تنهي حياته على الفور. وبعد ساعات على العذاب والقتال سيحظى بكيس طحين، سيحمله على كتفه وبمجرد أن يخرج من دائرة استهداف القناصة سيلاقي عصابة ملثمين أو مسلحين معروفين ويجردونه من حمولته، ليعود خائباً أو جريحاً أو قتيلاً.
معاناة مع التجار الذين يسرقون المساعدات، ثم يبيعونها بأسعار فلكية، حتى صاحب البسطة الذي لا يكتفي بالاستغلال، بل ويعامل الزبائن باستعلاء. معاناة مع سائق «الكارة» الذي يطلب أجوراً مرعبة مقابل توصيلة. معاناة مع المسلحين واللصوص الذين يستقوون بعائلاتهم، ومع أصحاب التكايا وأصحاب المخابز الذين يتعاملون مع الناس بكل قسوة وامتهان لكرامتهم.
معاناة من العائلة نفسها، داخل الخيمة، من بكاء الأطفال، وطلباتهم التي صارت مستحيلة، من ضيق المكان، واتساخه، مع الخوف والقلق والحيرة والجوع والعصبية. في الليل عتمة وكوابيس، وفي النهار ضجيج وطوابير وصراع على البقاء. في الشتاء أمطار وبرد، وفي الصيف حر ورطوبة، وفي كل وقت انتظار للمجهول.. ترقب أي خبر فيه بصيص أمل.. وخيبات أمل من المحللين المتفائلين والمتشائمين على حد سواء.
معاناة أصحاب الأمراض المزمنة، ومرضى السرطان، والفشل الكلوي، وعدم توفر الأدوية، وغياب الرعاية الصحية، وانتظار الموت البطيء والمحتم.
معاناة الجرحى ومبتوري الأطراف وذوي الإعاقة والأيتام والمشردين، ومن لم يجد خيمة تأويه، والأرامل، والفتيات اللواتي لا يجدن فوطاً صحية، ولا حتى متراً مربعاً يمنحهنّ بعض الخصوصية..
معاناة من أصحاب حملات التبرع و»الشحدة» بكل ما يتطلب الأمر من تذلل وابتذال، لأن أغلب هؤلاء كذابون ونصابون أساؤوا لصورة غزة ولكرامة أهلها.
معاناة من المبادرين والمؤثرين ونجوم «السوشيال ميديا» والخبراء الإستراتيجيين، ونجوم الفضائيات وضيوف «الجزيرة» الذين يقدمون صورة مغلوطة عن واقع غزة، ويزاودون على أهلها بكل وقاحة وتبجح، ويريدون لمعاناتهم أن تستمر حتى يستمر تكسبهم وتمتلأ جيوبهم بالدولارات، وصفحاتهم باللايكات.
معاناة مع من يحبون غزة ويعانقون أهلها عناق الدب.. يحبون أهل غزة ويتمنون لهم الشهادة، يحبونهم أبطالاً ومقاتلين وصامدين فقط، وإذا اختار أحدهم الحياة، أو حاول النجاة سيصبح في نظرهم جباناً ومتخاذلاً ومتساوقاً مع الاحتلال.
معاناة مع المتضامنين مع فلسطين (وليس مع الفلسطينيين) ممن يتابعون أخبار غزة بشغف وحماسة وانبهار، كما لو أنها مباراة لفريقهم المفضل، وليست أخبار حرب من دماء وأشلاء وأحزان وقهر وجوع وخوف: أخبار ترفع الأدرينالين في شرايينهم، وتحسّـن مستويات الدوبامين في أدمغتهم، وتمنحهم شعوراً بالنشوة والحبور والإحساس بالعز والكرامة وعيش لحظات النصر وهم على كنباتهم مستلقين يبحثون عن أفضل محلل سياسي يفش غلّهم ويغذيهم بالأوهام. عن أفضل بوست على الفيسبوك مصاغ على طريقة السجع ليتناقلوه ويشبعوا إحساسهم بالتمنيات.
معاناة من خذلان الأقربين: ضعف السلطة وغيابها المدوّي.. ترهل «فتح» وخبو دورها الكفاحي.. معاناة من أهل الضفة ممن لا يستشعرون معاناتهم ولا يحسون بقهرهم.. حتى في تظاهراتهم الخجولة ما زالوا يهتفون لموتهم ولمن تسبب بكارثتهم.
معاناة من المثقفين المشتبكين في مقاهي رام الله وعمّان، المغيبين والمنفصلين عن الواقع، الغارقين في أحلامهم الطوباوية، والمأسورين لشعارات وعبارات من الأزمنة الغابرة.. من جعلوا الأيديولوجية والحزب والشعار والهتاف أهم وأولى من الإنسان، وقبل حياة الناس، وقبل كرامتهم.
معاناتهم وهم يجاهدون لإقناع العالم أنهم مجرد شعب أعزل، وأن ما يجري حقيقة ليست حرباً بين طرفين، إنما حملة إبادة همجية ضحيتها النساء والأطفال والمدنيون.
معاناة مركبة ومتداخلة ومتعددة الأوجه، بحيث تبدو طائرات العدو ودباباته وقناصوه أقل شأناً مقارنة بالمعاناة النفسية وإحساس الغدر وألم الطعن في الظهر.