عائلة على رصيف الموت

عائلة على رصيف الموت
الكوفية على رصيف الموت لا يحتاج المرء الى تعريف.. يكفي ان ترى عائلة كاملة تفترش الارض كأنها آخر وطن متبق لها.
عائلة بأكملها جلسوا عند مدخل خيمة مهترئة في مواصي خانيونس.. حقيبتان صغيرتان بجانبهم.. هما كل ما تبقى من بيتهم في حي اليرموك بغزة.. بيت صار ركام.. واحلام صارت اشلاء مبعثرة على طرق النزوح.
امرأة بثياب متعبة تضم ثلاثة اطفال.. حاولت ان تخفي وجعها بابتسامة شاحبة.. سألوها الجيران هل تحتاجين شيئا.. قالت بصوت منكسر نحن بخير.. لكن عيونها فضحت ما لم تقله الحروف.. قالت ان الخوف يأكلها.. ان العراء يبتلعها.. انها لا تعرف اين يتواجد زوجها الان.
وحين سألها احدهم عن زوجها.. اشارت الى الفراغ.. ذهب يبحث عن مكان يأوينا عند صاحبه.. عرضوا عليها النوم في خيمتهم المتواضعة.. رفضت.. لو دخلنا خيمتك وعاد زوجي ولم يجدنا.. سيضيع منا مرة اخرى.. ونحن لم نعد نحتمل ضياعا جديدا.
سألوها عن رقم هاتف للتواصل.. اطرقت رأسها.. بعنا هواتفنا في غزة.. كي نستطيع النزوح الى تبة النويري.. لم يبق معنا سوى اقدامنا العارية واطفالنا الثلاثة.. يمشون الاف الامتار في ليل طويل.. يتعثرون بين الركام والرعب.
فجأة خرج طفلها الاكبر يمشى ببطئ و يعرج على قدمه. سألوها ما به.. اجابت بدمعة ساخنة.. دهستنا سيارة ونحن نائمون في الشارع الليلة الماضية.. بلا اضواء .. دهست اقدامنا جميعا.. لكننا نهضنا وعدنا نمشي.. كأننا لا نملك حق التوقف حتى ونحن مكسورون.
ثم اشارت الى طفلها الآخر الملفوف بقطع قماش بالية.. هذا احترق قبل اسبوع.. حوصرنا في بيت يشتعل بالنار.. كدنا نموت جميعا.. وخرجنا من وسط النيران.
اضافت وهي تمسح دموع صغيرها.. حتى الخشب والنايلون الذي اخذناه من بين الركام لنصنع به خيمة.. سرقه اللصوص ونحن نائمون بين المواصي ودير البلح
ثلاث ليال في الشوارع بلا مأوى.. باعوا كل ما يملكون من اجل النزوح.. دهستهم السيارات.. سرقهم اللصوص.. احرقتهم النار.. وها هم يجلسون على الارض كجرح مفتوح في خاصرة غزة
عاد الزوج اخيرا.. جلس بينهم صامتا.. انفاسه مثقلة بالجبال.. لم يسأل احد عن تفاصيل اخرى.. الوجوه وحدها تروى الحكاية
هذه ليست رواية من خيال..ولا مقتبسه من فيلم سينمائى.
هذه قصه حقيقيه وثقها صحفى حيث دارت بعض احداثها امام خيمته. حكاية واحدة من بين مئات آلاف الحكايات.. كل حكاية تحمل موتا صغيرا او موتا كاملا ..
النزوح ليس هروبا من الخطر .. النزوح موت مؤجل.. موت على مراحل.. ومع ذلك يستيقظون كل صباح ليقولوا للعالم.. ما زلنا هنا.. رغم كل شيء ..