احتلال غزة بين تكتيك الجيش واستراتيجيا السياسة ...!

أكرم عطا الله
احتلال غزة بين تكتيك الجيش واستراتيجيا السياسة ...!
البقرة المقدسة في إسرائيل هو رئيس الأركان لأنه يمثل الجيش، ولم يسبق في تاريخ إسرائيل أن تعرض رئيس الأركان للإهانات التي تعرض لها السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير فقد كان هذا المنصب فوق النقد، في إسرائيل مسموح مهاجمة رئيس الوزراء والوزراء وكل شيء لكن رئيس الأركان فوق ذلك.
بعد السابع من أكتوبر ظهر الجيش عارياً لتؤدي العملية الكبيرة التي قامت بها حركة حماس لبعض الانزياحات في ميزان القوى والقرار داخل المؤسسة الرسمية الإسرائيلية.
فقد أضعفت المستوى العسكري لصالح المستوى السياسي لدرجة سمحت بتصاعد الانتقادات ضد رئيس الأركان ليس من الوزراء فحسب بل وأيضاً من زوجة رئيس الوزراء المرأة القوية ومن ابنه.
لكن ما تأثير ذلك على غزة والصراع الذي نشأ بين الجيش بممثله في الكابينت وبين السياسة ممثلة برئيس الوزراء، وكيف يتخذ القرار في إسرائيل، ولماذا هذا الصراع الذي خرج إلى العلن طالما أن القيادة تعود للمستوى السياسي وأن المستوى العسكري هو مجرد أداة تنفيذية للسياسة وقد قالها زامير أمس إن الجيش ملتزم بما يقرره المستوى السياسي.
فلماذا لم يقرر نتنياهو وعلى زامير أن ينفذ كما في كل الدول ؟
كلها تساؤلات تعكس حضور الجيش وضرورة موافقته وتعكس أيضاً فرادة اتخاذ القرار في إسرائيل والذي يلعب فيه الجيش دوراً مركزياً يسبق السياسة في كثير من الأحيان.
تكمن قوة الجيش الكبرى في آلية اتخاذ القرار، فهناك توجهات واتجاهات ومعارك وصراعات يفكر بها المستوى السياسي فيطلب من الجيش وضع خططها التنفيذية وحينها يقرر الجيش تسهيل الأمر على السياسي أو جعله صعباً، وحين لا يريد الجيش للقرار أن يمر فإنه يضع سيناريوهات سوداوية ويشكك بالقدرة على نجاح المهمة ويهول من حجم الخسائر وتشاؤم التداعيات الإستراتيجية، حينها ماذا يعني ذلك ؟
تلك التقديرات السوداوية يحتفظ رئيس الأركان بنسخة منها فيما لو قرر المستوى السياسي الذهاب للعملية أو الحرب وصدقت تقديرات الجيش وتشكلت لجنة تحقيق، حينها ستتم الإطاحة برئيس الوزراء باعتباره تلقى ما يلزم من التحذيرات من قبل جهات الاختصاص وهنا وحده يتحمل مسؤولية الفشل.
سابقاً أراد نتنياهو القيام بالكثير من العمليات منها ضرب مفاعلات إيران النووية قبل أكثر من عقد ليضع له الجيش سيناريوهات الفشل فيصاب نتنياهو بالجبن، صحيح أنه يمكنه تغيير رئيس الأركان لكن لا يمكنه تجاوز تقديراته هكذا اعتدنا القول والتحليل أن الجيش هو صاحب القرار في إسرائيل ليس فقط لأن رئيس الأركان هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وفقاً للقانون، بل بسبب آلية اتخاذ القرار التي وضعها بن غوريون مبكراً بيد الجيش. هنا كانت معضلة نتنياهو مع زامير رغم ضعف الجيش كما ذكر سابقاً لكن الآلية ظلت كما هي ما يفسر هجوم عائلة نتنياهو على رئيس الأركان، فقد باتت العائلة تشعر بأن الأخير بعرقلته لاحتلال القطاع فإنه يمس بمستقبل رب الأسرة السياسي الذي بات عليه خلال أشهر حسم أمر غزة قبل الذهاب للانتخابات.
فإسرائيل خلال أسابيع ستدخل عام البطة العرجاء هذا لو استمرت الحكومة بولايتها كاملة.
نتنياهو لا يؤمن بالجيش ولا بالمؤسسة لسببين، الأول أن الجيش الذي ضبط متلبساً بالعجز يوم السابع من أكتوبر عليه أن ينكمش تاركاً الأمر لـ «السياسي الأقدر على تقرير مصلحة الدولة» والثاني أن بنيامين نتنياهو بعد اقتحام محافظة رفح في السادس من أيار العام الماضي بات مقتنعاً أن الجنرال برنارد مونتجمري يصلح ليكون تلميذاً في مدرسته حين حذره الجميع آنذاك من اقتحام المدينة التي كان يتكدس بها أكثر من مليون من سكان القطاع وطلب الرئيس الأميركي خطة إخلاء واضحة قبل دخول رفح وبينما كان الجيش يحذر ويضع العراقيل قرر نتنياهو اجتياحها غير آبه بكل تقديرات الجيش.
وكان نجاحاً باهراً يستخدمه كنموذج في قدرته على تقدير الموقف العسكري بكفاءة تجاوزت هرتسي هاليفي ومعه يوآف غالانت وجو بايدن وأوروبا والأمم المتحدة وحجم المؤسسات التي تقف خلف كل هؤلاء.
كان نتنياهو أكثرهم دقة وبكل أسف هكذا أثبت لأنه أخلى المحافظة خلال ساعات وسيطر على شريطها الحدودي ومعبرها، تلك السيطرة التي شكلت تحولاً هائلاً في مسار الحرب وفي مكانة حركة حماس وإمكانياتها.
نتنياهو يتصرف مثل الفيل الذي يحطم كل شيء، وعليه أن ينتصر ولا يسمح لنفسه بالهزيمة أو يسمح للآخرين بهزيمته فهو يقاتل الجميع في إسرائيل، أطاح بوزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس المخابرات والمستشارة القضائية ويتعارك مع المحكمة العليا في كل قرار يتخذه، هذا ليس مهماً لديه بل الأهم أن ينتصر ويذهب للانتخابات ولديه ما يكفي من الأوراق للفوز ومنها الآن ورقة غزة.
فهو يشعر بأن إيال زامير يريد منعه من النصر وأن عليه أن يجتاح غزة، هكذا طلب منه وأن يستعيد الأسرى أحياء أو أموات وأن ينهي حركة حماس وأن يدمر كل شيء كما تفعل الفيلة وأن يستغل اللحظة التي توفرت لإعادة هندسة غزة.
لكن الأمر أبعد من ذلك بين الجيش والسياسة، فهو صراع بين التكتيك والاستراتيجيا حيث العسكر والأمن الخبير بالتكتيك والمناورة لكنه الجاهل بالاستراتيجيات والما بعديات.
وهنا يلتقط نتنياهو الفرصة باتجاه الاستراتيجيات التي وعد بن غفير بها بتهجير سكان غزة وهذا لم يفهمه الجيش والتخلص من المكان ديمغرافياً بعد أن تمكن من تدميره تاريخياً وجغرافياً، وأن كل ما كان يفعله خلال الحرب وهو تهيئة المناخ للمشاريع الكبرى وهو ما تحمله خطة اجتياح القطاع التي تأخرت لأسباب سياسية بحتة.