غرناطة... دمعة العرب المتحجرة

غرناطة... دمعة العرب المتحجرة
الكوفية متابعات: يصف الباحث والمؤرخ اللبناني المعروف بطرس البستاني (1819- 1883) غرناطة بأنها «دمعة العرب المتحجرة على خد الأندلس»، باعتبارها تحمل خصوصية وتفرداً في الوجدان العربي العام كونها آخر ممالكهم التي سقطت في الأندلس بعد قرون من الازدهار للغة الضاد والحضارة العربية في عمق أوروبا.
جاء ذلك في كتابه «معارك العرب في الأندلس» الصادر عن «الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة» ضمن سلسلة «خارج السلاسل».
ويشير البستاني، مؤلف أول موسوعة عربية «دائرة المعارف: قاموس عام لكل فن ومطلب»، في كتابه الذي يتسم بالتكثيف والإيجاز إلى أنه لم يبق في أيدي العرب بعد انهيار دولة الموحدين ومقتل محمد بن هود وسقوط قرطبة وإشبيلية وسواها من المدن والقلاع إلا مملكة غرناطة. أضف إلى ذلك أن موقعها الطبيعي وما فيها من الحصون والقلاع والأبراج يضمن لها إرهاق غزاتها، وهي رغم ضيق مساحتها مكتظة بالسكان، لأن معظم العرب الذين هاجروا من الولايات الأندلسية التي استردها الإسبان لجأوا إليها واتخذوها مقراً.
ظلت هذه المملكة الصغيرة بمأمن من الكارثة الكبرى لا تخشى شرها حتى تم الاتحاد بين «قشتالة» و«أرغون» سنة 1469 حين تزوج «فرديناند الخامس» الملكة «إيزابيلا»، فاجتمعت دولتان قويتان على إمارة بني الأحمر في غرناطة في حرب مستعرة لسنوات. رافق ذلك ضعف في أحوال غرناطة بسبب خلافها الداخلي وانقسامها إلى أحزاب تتصارع ويفزع بعضها إلى الملوك الإسبان للاستقواء بهم.
ويرصد البستاني فصل النهاية في سقوط غرناطة، مؤكداً أن مقر الحكم «قصر الحمراء»، أصبح ملعباً لدسائس النساء ومكايدهن، مما أشعل الثورات الأهلية ليستفيد منها العدو. وكان سوء الطالع أن يتولى أمر غرناطة السلطان أبو الحسن علي بن الأحمر، رجل لذات وشهوات فأهمل رعاية الجيش وأقدم على قتل كبار القادة ليأمن انتفاضتهم ضده فتراخت القوى العسكرية في الدولة. وكان في تهافته على اللذة، يكثر من التسري بالجواري ليطيب له الاستمتاع فوقع على جارية إسبانية اسمها «إيزابيلا» فشغفته شغفاً عظيماً، واستولت على إرادته وحملته على أن يتزوجها وأسلمت فسُميت «الثريا» فأحلها المنزلة الأولى بين نسائه، حتى إنه قدمها على زوجته «عائشة»، ابنة عمه السلطان أبي عبد الله الأيسر.
وأراد أن يجعل ولاية العهد لبعض أولاد «الثريا»، فاشتعلت الغيرة في صدر عائشة، وراحت تدس للأولى، وتنصب لها أشراك مكايدها فانقسم خدام القصر إلى فئتين متنافرتين، تميل واحدة إلى «أولاد الحرة»، والأخرى إلى «أولاد الجارية»، والشعب خارج القصر غاضب على الحاكم لجوره واستبداده، ويطلب إقصاءه.
وفي سنة 1482 فرت عائشة من «الحمراء» ومعها ولداها أبو عبد الله محمد وأبو الحجاج يوسف خوفاً ممن أن يفتك بهم زوجها نزولاً على رغبة محظيته الإسبانية، فقصدوا وادي «آش» يستثيرون الشعب الذي كان ناقماً بالفعل على أبي الحسن، واستهتاره، فمد إليهم يده وبايع أبا عبد الله خالعاً أباه، حيث انتصر الأولون لأبي الحسن والآخرون لأبي عبد الله فكانوا يقتتلون في الشوارع والطرق حتى تركوا الفوضى منتشرة في البلاد.
وكان فردينان وإيزابلا يقودان الجيوش بنفسيهما ضد عبد الله الذي استتب له الأمر لاحقاً ويتعهدان نصب آلات الحصار على العاصمة، وقذف حصونها بالمدافع، ولكنها كانت منيعة، وأدرك الإسبان أن الحصار سيطول فأمرت إيزابيلا ببناء مدينة مقابل غرناطة تناوئها مدة الحرب. وهذه الخطة أخذها الإسبان عن العرب عندما يطول الحصار، فبُنيت المدينة وسميت «شنتفي» أي «الإيمان المقدس» والتي أقامت بها القوات الإسبانية بكثافة.
دعا السلطان أبو عبد الله رجال الدولة وأهل المشورة في غرناطة يستطلع آراءهم فيما ينبغي عمله فاتفقوا على تسليم البلاد حفاظاً على الأرواح، واختاروا وفداً للتفاوض فاستقبلهم فردينان وإيزابلا بحفاوة. عرض الوفد العربي تسليم العاصمة بشرط منح الأمان للمسلمين، فقبل العاهلان دون تردد أن تفتح المدينة أبوابها صلحاً ووضعت معاهدة الاستسلام وهي تتضمن سبعة وستين بنداً، بحسب المؤرخين مثل المقري. وكان السلطان أبو عبد الله قد غادر القلعة قبل دخولهما العاصمة فاجتاز «ساحة الأسود» كسيرا منخلع الفؤاد، يسير مطرقاً إلى منفاه وبجانبه أمه «عائشة» صامتة قاطبة، والناس وقوف في الشوارع والشُرَف يشيعونه بأنظارهم منقبضين ما بين راحم وناقم.
حتى إذا انعطفت به الطريق وكادت «الحمراء» تتوارى عنه أرسل إليها النظرة الأخيرة، وهطلت عيناه بالدموع، فالتفتت إليه أمه، وقالت له بمرارة الشامت المتألم قولتها الشهيرة: «ابك مثل النساء ملكاً عظيماً لم تحافظ عليه مثل الرجال»، ولا يزال هذا الموضع يسمى إلى اليوم «زفرة المغربي».